مع حلول شهر محرم الحرام تنصب مواكب العزاء ومجالس الحزن في كثير من بلدان المسلمين، ويتسابق الناس من أجل خدمة الزائرين والمعزين وحضور المجالس والحصول على طعام تلك المجالس وقد يتحولون إلى باحثين عن طعام وخدمة جيدة، وقد يبالغ الناس في ذلك لأسباب داخلية نفسية كالتفوق وسبق الآخرين أو نيل منزلة اجتماعية أو الانخراط في عالم بعيد عن الحياة المعاصرة وأعبائها النفسية الثقيلة.
وهنا نكون أمام مفهومين محوريين "ثواب" "الوعي"، والأصل إنهما غير متضادتين، فالمرء يثاب على نيته الحسنة وإن لم تتحول إلى أفعال، والنية الحسنة تنبع عن معرفة بما هو حَسِن وأسباب حُسن الفعل، أي إنه الوعي والإدراك، ولا يشترط أن تكون المعرفة ناتجة عن دراسة معقدة أو مفصلة، ولكن سلامة القلب والفطرة وصفاء الذهن وصحة المنطق أساس لها.
غير إنه وفي مرحلة ما على طول مسار الشعائر الحسينية حدث نوع من الانفصال بين الثواب والوعي، فأصبح هناك نوع من السعي المحموم للانخراط في الشعائر للحصول على الثواب دون محاولة الوعي بالقضية التي تحاول أن تحييها هذه الشعائر أو التوقف للتفكير، وكأن مسألة الوعي مسألة إضافية تأخذ من وقت اصطياد الجوائز أو مسألة نخبوية ليست للعامة، وبالتبعية تحولت الكثير من الشعائر إلى ممارسة سلوكية رياضية بصبغة حسينية، دون إدراك أبجديات ثورة الحسين.
وتولد عما تقدم نوعان من الخطاب، الخطاب الحسيني الإسلامي الواعي سواء في المجلس أو القصيدة أو الممارسات المختلفة التي ترمي إلى تحقيق الوعي وغرس أفكار أبعاد القضية في النفوس ولا يهواها إلا فئة محدودة متناهية الصغر، والخطاب المتوارث وهو خطاب يقبل عليه القسم الأكبر من الناس، ويقومون به قصداً لنيل الثواب أو المنزلة الاجتماعية وبدافع من العادة، وقد يخالفون فيه بعضاً من مقاصد الحسين والتي هي مقاصد الإسلام الحنيف، فهذا يقدم قصائد لمجرد جعل الناس يتفاعلون دون كلمة واحدة ذات معنى وهدف، وهذا يقيم مجلساً لا غاية فيه سوى أن يُعرف بين أقرانه بأنه يقيم مجالس، وهؤلاء لا يحضرون إلى مجلس ما لأن الخطبة طويلة والرادود لا يلقي قصائد مشهورة والطعام ليس مما يشتهون، وهذا يحضر المجلس من أجل صاحب المجلس وإن كان فارغاً من معناه وينأى عن مجلسٍ رفيع القدر وغزير العلم لأن مجاملة الناس مقدمة على فحوى المجلس، وهؤلاء يقدمون طعاما فائضاً عن الحاجة ويعلمون أنه فائض عن الحاجة وسينتهي معظمه إلى القمامة فقط لنيل الثواب وحصد الأجر.
الخطاب المؤكد على نيل الثواب وقضاء الحوائج غير الشامل على النظر إلى أبعاد القضية الحسينية والوقوف عندها، هو خطاب يعزز الفردانية ويفرغ الشعيرة من محتواها، والشعائر والعبادات الإسلامية هي طريق للوحدة ولبنة لبناء جسور ترابط قوية ورصينة بين المسلمين، نيل الثواب ليس مقصد الشعائر والعبادات بل هو نتيجة عرضية للفعل الحسن، فلو سعى الإنسان للثواب، كمن يسعى لنيل الشهادات للحصول على الترقيات والمنزلة الاجتماعية دون أن يوفق لفهم شيء مما يدعي أنه يحوزه في هذه الشهادة أو تلك، ويكون فرداً لا نفع له في مجتمعه، فغايته من العلم شهادة ينتفع من عوائدها المادية والمعنوية، وليس نيل العلم لإعمار الأرض وخير المجتمع وحباً في العلم لذاته، كما أنه خطاب سهل كسول لا إعمال للعقل فيه للقائل والسامع، وهناك ميل واضح للكسل والفردانية في الثقافة المعاصرة عامةً.
خطاب نيل الثواب والأجر وقضاء الحوائج عند عموم المسلمين هو خطاب يعزل الإنسان عن محيطه، ويعطل فكره، وينشغل في محيط ذاته الضحل، فلا يعود مهموماً بشأن أمته بل لا يعود مهموماً بشأن أقرب أقربائه، ولا يهذب نفسه أو يحاسبها، لاهثاً لجمع النقاط، لكي تكون حياته وآخرته في رخاء، وتستجاب دعواته، وتتحقق أمنياته.
نحن نردد دائماً "الحسين عَبرة وعِبرة"، وعلينا أن ندرك ذلك إدراكاً راسخاً، فيوم الطف حي في كل زمان ومكان، ليس حدثاً تأريخياً منفصلاً عما يجري في العالم وفي حياتنا اليومية، فلا يصح أن نكون مع الحسين ونظلم الآخرين، أو نبكي على الرضيع وحرق الخيام وعطش الحسين وآله، وأطفال غزة يموتون جوعاً وعطشاً وحرقاً، أو نقول هيهات من الذلة ونحن لا نمانع مد أيدينا إلى العدو ومصافحته، أو نمنع مساعدتنا عن الآخرين بكل أشكالها، أو نتعامل مع المسلمين وفقاً للحدود التي وضعها العدو لتفرقتنا رغم أن جيش الحسين كان فيه الجميع من كل عرق ودين واتجاه، أو قد لا نراعي النساء أو لا نوقر العلماء والعلم ولا نحيي معاني القرآن أو لا نصلي ولا نفهم الصلاة، وغير ذلك الكثير، فالحسين (ع) خرج للإصلاح في أمة جده رسول الله (ص)، وكل ما جاء به الإسلام هو ما قدم الحسين روحه فداءً له.
حان الوقت لنفكر بحال الجماعة، كما أراد الحسين لنا أن نكون وإن كانت الجماعة غير واعية لمصالحها، فإن صلح حال الجماعة صلح حال معظم الأفراد بالضرورة، وإن فسد حال الجماعة، فسدت حياة الفرد لا محالة، وإن الأجر بالعِبرة، وعَبرةُ معرفةٍ، ولذا يسأل الله في محكم كتابه "ألا يتفكرون؟".
اضافةتعليق
التعليقات