في رحاب الوجود الإنساني، تتجلى ثنائية أزلية بين ما يبدو وما يكمن، بين الظاهر الذي يراه العالم والباطن الذي لا يدركه إلا الخالق وبعض خواص البارئ. هذا التوازن الدقيق، أو بالأحرى غيابه، يشكل محور صراع الإنسان الأزلي، مفترق الطرق بين السمو والانحدار، بين التجلي الحق والتيه في متاهات الهوى.
إن الإنسان، بتركيبته الفريدة، ليس مجرد جسد يكتسي ثوبًا أو وجهًا يبتسم. هو كون مصغر يحوي في أعماقه عوالم من المشاعر، الأفكار، النوايا، والرغبات. متى تلاقى هذا العالم الخفي مع ما يظهر على السطح، أي حينما يكون الباطن مرآة صادقة للظاهر، وحينما يكون الظاهر تعبيرًا أمينًا عما يستقر في الأعماق من خير وحق، عندها يتحقق الانسجام وتتجلى الاستقامة، بهذا فقط يكن الانسان متوازناً ومُتزناً بحق.
لكن التحدي الأكبر الذي يواجه أغلب الساعين يكمن في النفس الأمارة بالسوء، تلك القوة الكامنة التي تميل إلى الشهوات والرغبات الدنيوية. إنها الفخ الذي يوقع بالإنسان في تناقض صارخ بين ما يدعيه وما يفعله، بين المبادئ التي يتغنى بها والأفعال التي تتضح حتى وإن حاول الامطار أو التمويه عنها. عندما يسلم الإنسان زمام نفسه لهذه الشهوات، يتحول الظاهر إلى قناع، والباطن إلى بئر من الرغبات المظلمة. يصبح الوجود مجرد تمثيلية، لا تخدم إلا إشباع اللحظة الفانية، وتغفل عن حقيقة الوجود الأسمى.
إن دعوة الفلسفة العميقة ليست مجرد دعوة لضبط السلوك، بل هي دعوة لإعادة تشكيل الذات من الجذور. أن يكون الإنسان مظهرًا للحق يعني أن يستشعر الحق في كل خلية من كيانه، وأن تنعكس هذه الحقيقة على كل فعل وقول. يعني أن يكون الباطن مطهرًا من أدران الشهوات، لا لأنها محرمة فحسب، بل لأنها تحجب رؤية الحق وتعيق مسيرة الروح نحو الكمال.
فالحق ليس مفهومًا مجردًا، بل هو تجلٍ للحقيقة الكونية التي تكمن في جوهر كل شيء. عندما يتجلى الحق في الإنسان، يصبح نوره ساطعًا، لا يغيب عن الأعين ولا عن القلوب. هذا التجلّي لا يأتي إلا بمجاهدة النفس، بمقاومة إغراءات الظاهر الكاذب، والتعمق في باطن الذات لتطهيرها وتنقيتها. علينا أن نعي إن لم تكن لدينا الموازنة في دواخلنا فقد ضيعنا عمرنا هباءً بجهل، وإن السعي نحو الموازنة بين الظاهر والباطن رحلة مستمرة، رحلة تتطلب وعيًا دائمًا ومحاسبة ذاتية مستمرة. فليكن ظاهرنا دعوة للخير، وباطننا مستقرًا للحق، لنصبح كائنات متكاملة تعكس عظمة الخالق في كل تفاصيل وجودها، بعيدًا عن سطوة الأهواء وزيف المظاهر، فهل يُستحسن أو من اللائق بنا نحن شيعة علي أن تبقى قيادتنا بيد الظالم هذه النفس الأمارة التي تتخبط نحو التَيه والضياع لتودي بنا إلى الهلاك المحتوم.
علينا أن نستلهم من العرفاء والعلماء الذين هم مثلنا ليسوا بمعصومين ولكنهم جاهدوا حتى وصلوا وها هو تأريخ الحسين أمامنا واضحا وجلياً وأصحابه النجباء الأكرام الذين كان ظاهرهم وباطنهم واحدا فحينما قالوا نحن فداءً لك قدموا أرواحهم قرابين لإمامِ زمانهم بحب وذلك التأريخ يُخلدُ ذكراهم وتلك كانت نهايتهم.
اضافةتعليق
التعليقات