ربما كثيرون مثلي قد لفت نظرهم مؤخرا كثافة الدراجات النارية التي تجوب الشوارع كي توصل طلبات الطعام للزبائن .
ادهشتني سرعتها الجنونية وهي تنطلق كالصاروخ وكأنّ الزبون يتضور جوعا بانتظار وجبته، علمت فيما بعد إن سرعة ايصال الطلب تعتبر ميزة للمطعم صاحب الوجبة، وعامل الإيصال ربما يعاقب أو يُوبّخ إذا تأخر! .
هذه الظاهرة التي أصبحت طاغية في مجتمعنا وكأنّ النساء لم يعدنَ يطبخْنَ في بيوتهن !
عندها تذكرت أمي، وطقوسها المقدسة التي لا تتخلف فيما يخصّ الطعام، حيث كانت ترفض أن نأكل من خارج البيت طعاما تجهل مصدره، وترتاب بمن أعدّه؛ لذا كنا من النادر أن نأكل خارج البيت، وحتى في السفر كانت تحرص على إعداد الطعام بنفسها .
كانت تدرك - بفطرتها - إن مايدخل الجوف ينعكس على الروح، ويترك بصماته عليها دون أن يشعر الإنسان؛ وكانت تحرص على بقاء أرواحنا نقية من كل تأثير سلبي!
كل يوم عند منتصف النهار كانت وجبة الغداء جاهزة، تتسبك على نار هادئة بانتظار عودتنا من المدرسة، وفي الأعياد والمناسبات كانت تتحفنا بوجبات استثنائية فاخرة !
علاقة أمي بالطعام أعمق مما تبدو، فقد كانت مشاعرها وحالتها النفسية تنعكس على ما تطهو؛ فكنّا نشعر إذا كانت منشرحة الفؤاد، أو منزعجة بمجرد أن نتناول لقمة واحدة !.
وأثناء إعدادها للطعام كانت أحيانا تسبّح، أو تقرأ ما تحفظ من أدعية أو سور قرآنية، فيمتزج طبيخها بالبركة، وفي أيام محرم كانت تقرأ أبيات الرثاء الحسيني وتبكي، فكان طعامها يشاركها مشاعر الحزن، وفي كل وجبة كانت تضع جزءا من كيانها؛ لننموَ ونكبرَ في عافية من طعام نضج أثناء ذكر الله وتسبيحه !.
إن حرص على الإنسان على طعامه يجب أن لا يتوقف على حليّته وطهارته المادية، فالأمر أبعد من ذلك ويجب التأكد من طهارته المعنوية، وطبيعة اليد التي تتعهده!
ومن طريف ما يُروى عن الإمام علي (عليه السلام) إن قنبر مولاه جاءه يوما بطعام إفطاره وكان جرابا فيه سويق وعليه خاتم، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إن هذا لهو البخل تختم على طعامك؟! فضحك الإمام عليه السلام وقال: لا أحب أن يدخل بطني شئ لا أعرف سبيله، وكان يقول أيضا: أكره أن يدخل بطني غير طيب.
ربما يفهم البعض من كلامي بأني ضد الأكل من خارج البيت مطلقا، وبالتالي فإن الكلام يصبح غريبا، أو صعب التنفيذ، أو مبالغا فيه، ولكنني أعتقد أن بإمكاننا أن نحتاط قدر الإمكان، ولا بأس من ارتياد المطاعم الموثوقة في مناسبات معينة، وكسرا للروتين، أما أن يصبح هذا الأمر أسلوبا للحياة فهذا هو الغريب برأيي!.
وينبغي علينا أن نتوسع في فهمنا لقوله تعالى: { فَلۡیَنظُرِ ٱلۡإِنسَـٰنُ إِلَى طَعَامِهِ } ليشمل هذا النظر التأمل في كل جوانب الطعام، ماديا ومعنويا، مصدره ومنتهاه؟
وأكرر ثانيا بإمكاننا الاحتياط قدر الإمكان فما لايُدرك كلّه، لا يُترك جلّه .
لقد قرأنا وسمعنا الكثير من القصص في حياة علمائنا الأعلام حول دقّتهم في انتقاء ما يأكلون، واهتمامهم في طهارة الأشخاص الذين يعدّون طعامهم؛ لأنهم يدركون جيدا تأثير الطعام على روح الإنسان، وصفائها، والغريب إنهم كانوا يكتشفون إذا ما مسّ طعامهم أي مؤثر معنوي يؤثر على شفافية أرواحهم.
إن البركة .. كل البركة في الطعام الذي تعدّه أمهاتنا، طعام نكهته الحب، ومزاجه مشاعر الحنان والأمومة التي لا تنضب، طعام صُنع بحب، وأُكِلَ برضا .
اضافةتعليق
التعليقات