ويعظمك الذكرُ يا حسين، وأنتَ اللغة الواسعة، والسرّ التكويني اللامنتهي، فحواها ومعناها. أنتَ قُبّةُ الشمس التي احتضنت راية الاختلاف في البشر، وجمعتهم تحت راية الهدف الواحد، وذات القيمة التي تتجلّى منها آفاق الكون نحو التغيير، والتكامل الروحي، وفهم حقيقة التضحية في سبيل السُنا إلى مجد الله ومعرفة قدره.
ليكون كلُّ حسينيٍّ ينبوعَ حكمة، وأصالة، وحضارة. تقاسيم الوجود تذعن لصرختك في يومٍ كان مقداره تضحياتٍ بأبهى صورها… يوم خُضِّبَت الأرض بدمك.
"ألا هل من ناصرٍ ينصرني؟"
هتافٌ تسلّل إلى أذنِ التاريخ، وأجساد الغيب شاهدةٌ على الوحدة والغربة. أجيالُ اليقظة دُفن سمعها على صعيد الشمس، تترقّب الطلعة الثائرة، وأظِلّةُ الثقافة تنحني لتدرك علّة الخلود.
وعلى متن الحديث، قاربٌ من الأسباب المهولة يخفي كثيرًا من الإجابات، على ذمّةِ تجاوز مراحل الحضارة، ونشوء عقلية كلِّ جيل، ومدى استيعابه ذروة الولاء، وأداء العهد والأمانة. فالبَيْعةُ مع الحسين هي بيعةٌ لله عزّ وجلّ.
صلى الله عليك يا أبا عبد الله... الذي جعل أفئدةً من الناس تهوي إليك، قراءةَ العاشق، ونَفَسَ المهموم، وخطوات المتلهف إلى لقائك. وعناقُ المشتاق إلى ذراعك المُسدّدة بالبركة، وقبول الأعمال.
أربعون يومًا تلخّص المصاب، ومسيرُ البكاء تُرجِم فيه إلى عطاء، على مدى بصر الطريق. الكفّ يُكلّم الراحلة، وزادُ الغيب تتمناه جيوب الذكر. ولسانُ حال الحزين تَرمش له غمامةُ الفضل، وقد أغدقوا عليهم من المكرمات.
في يوم الأربعين، استحالت الغربة إلى وطنٍ يجمع الشتات، ويفضح البغاة، ويتأقلم فيه الغني مع الفقير، والعالِم مع البسيط، والراحل مع المقيم. تعدّدت فيه صور العطاء، وذبذباتُ الإرادة فيه اتّسعت لتُجسّد التضحية.
وصار الصغيرُ قالبًا للخدمة، على قدر ذكائه. والكتابُ جامعُ الحسنات في صندوق الأجر، ثوابٌ ممنون إلى يوم الدين. العيونُ تترقّب الحديث، والصدرُ جياشٌ ليقتل نفسَه حبًّا وأسفًا على راحلة المسير.
وكأن الزمن قد أوصد بابه على زمنِ القافلة، التي تربع الحزن فؤادها لتصل إلى قبر الحضارة، تُقبّل ترابه، وتذوب عند مصرع التليد. ملائكةُ الدمع جيشٌ كبيرٌ يحرس قامات الرسالة، ووجوهُ الزاحفين تتقلّب لمبدأ العرش، وتفصح الأثر البليغ، شعثًا غبرًا، انتظارًا للفرج الذي فيه غفران الذنب، وانتصار الدم على السيف، شعارًا مستديمًا.
وأقدامُ الولاء تصرّ على الزحف لإحياء شعيرة الأربعين، وفي دوامة لفظ اسم المستغيث، يفعلون المستحيل. لا يصيبهم ظمأٌ ولا مخمصة، وهم على نار الرمال يزحفون طلبًا لرضا إمامهم المظلوم.
لأنهم في حضرة القرآن، يطلبون ويُطالبون، يرحمون ويترحمون، كما سيرحمهم الله، إن الله عزيز حكيم.
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:
"من أتى قبر الحسين (عليه السلام) ماشيًا، كتب الله له بكلّ خطوة ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيّئة، ورفع له ألف درجة. فإذا أتيتَ الفرات فاغتسل، وعلّق نعليك، وامشِ حافيًا، وامشِ مشيَ العبد الذليل."
في يوم الأربعين، الكلمة لها مقام صدقٍ في قلوب الزائرين. كلُّ الحناجر الحاضرة في مشهد العهد والبيعة تبصم أنها الخصيم والقَسيم على كلّ ظالمٍ لئيم، براءةٌ متجددة، ولعنةٌ متكررة على قتلة الحسين وآله.
والعيون شاخصة، وهتافها وجمهرة الصوت تنادي:
"يا ليتنا كنا معك".
في أقبية الزمن، حاضرين لنكون من المناصرين عند ضحى الغربة والوحدة والدم لسيد الشهداء. الفمُ المتعطّش يوم الطامّة الكبرى في صحراء اليمامة، وفيافي الطفولة عنقها كبياض التاريخ، تنظر بعين الفجر إلى ذلك الفرج القادم.
مسارٌ واحد، وغايةٌ أكيدة، تجمع المعنى المتسلسل غيبًا بين يوم الأربعين وفرج المولى الحجة (عجل الله تعالى فرجه). مسارٌ أشارت إليه مولاتنا زينب (عليها السلام) في خطبتها الغرّاء:
"والحمد لله الذي حكم لأوليائه بالسعادة، وختم لأوصيائه ببلوغ الإرادة، نقلهم إلى الرحمة والرأفة والرضوان والمغفرة... اللهم خذ بحقنا، وانتقم من ظالمنا، وأحْلِلْ غضبك بمن سفك دماءنا، ونقض ذِمامنا، وقتل حُماتنا، وهتك عنّا سُدولنا."
إنها الغاية التي تسكن في نبض كلِّ صدرٍ يتتبع الكلمة حين إشراقها، لتُلهمه بصيرة الفتح الذي ابتدأه الحسين (عليه السلام)، ويختمه فرج المولى المهدي (عليه السلام).
فهذا الفتح هو من ذاك… بدايةُ الثبات نهضةٌ، ونهايتها ثورة وثأر.
هذا هو البيت الحسيني، الذي تراوده أحبةُ المنهج، وأهلُ الشعيرة على مدى التاريخ. فكلُّ إصرارٍ يعني تقمّص فكرة، وقيادة وعي، ونضج، وترك ما لا يناسب الدين، والالتزام بالشريعة على يقين.
في زيارة الأربعين، برمجةٌ للسلوك البشري، وتعديلٌ لنمط التصرف، وتطورٌ على مستوى المعيشة والتعايش. وفهمٌ عميق للصبر ومعادلاته في المواجهة.
لأن الدمعة على الحسين (عليه السلام)، لها كل الفضل في رسم هيكلية المواسي، وجعلها لباسًا مختلفًا، مطرّزًا بالحكمة، ذا صبغةٍ ولائيةٍ ثابتة، مستحكمةِ الأفكار، وفهمٍ للترابط بين القيم والأهداف، وأفرادها الثائرة، وأحداثها المتسلسلة، وإن اختلف الظرف والأسلوب.
في الأربعين، ركيزة الفقر الفكري تلتف حول من ينكر أيام العزاء، ويسخر من لحظاته الثمينة، ووجوب إقامته واتّباعه. واليراع لمن أثبت رايته على فهم المقدرات، واستيعاب الفقرات.
فكل خطوةٍ فيه تعني بيعةً ودمعة، وكل هتافٍ فيه يعني نصرةً ووقفة، وكل صرخة شعورٌ ممزوجٌ بالاحتجاج على كل ظالم.
لا بد من إحياء القيم والمبادئ، واستشعار النفس بالتقصير، فكل ما يُقدَّم في هذا اليوم، هو تحدٍّ ضد كل ناصبيٍّ لعين. وهو يومٌ تستنقذ فيه الناسُ أنفسها من الضلال.
إنها الزلزلة القائمة، التي شرخت ساحة الفداء منذ ذلك الوقت إلى نصفين: سيفٌ أثبت قدرته وشجاعته على مبدأ التراب الهائج، في وجه الإنسان الشيطان المتمرّد.
فمسيرُ عاشوراء لم ينتهِ بعد، حتى حلول الفرج، وأخذ الثأر على يد المولى الحجة بن الحسن (عجل الله تعالى فرجه الشريف). وفوهةُ الحذر ما تزال قيد البصيرة.
فكلّ من يغفو، تصيبه الخيبة، كي لا يُصاب الموالي بهشاشة الصوت، أو الاستسلام للوجع.
وقد ختمت مولاتنا زينب لزائري الأربعين بدعائها الجميل:
"ونسأله أن يُكمِلَ لهم الأجر، ويُجزِلَ لهم الثواب والذخر، ونسأله حسنَ الخلافة وجميل الإنابة، إنه رحيمٌ ودود."
اضافةتعليق
التعليقات