ويقبل الأثيرُ ليُذكّرنا برحيل أحبابنا؛ إنها السنوية المؤلمة لفقداننا الكلمةَ ذوقها في الحياة.. إنه رحيل السيد الفقيد السعيد الرضا الشيرازي (قدّس سرّه).
شخصيةٌ اعتمرت بالقوة والسكينة، ومثابرة العلم، وثوابت الأفكار، وبناء مجتمع قائم على الحق وسيف الكلمة؛ مجتمع يتمحور حول إذعان الذات وتمكّنها من فهم كلمة سرّ الحاضر، غذاؤها الإيمان والذكر، وخبزها اليومي اتّقاد الهمة.
يقول أحد الكتّاب:
“أحيانًا لا ينقصك الذكاء، ولا الجمال، ولا حتى القدرة...
الشيء الوحيد الذي يقف بينك وبين حياة أفضل هو:
قوّة الشخصية.”
فعلاً، إن كنتَ قويًا في شعارك وشعيرتك، كنتَ عظيمًا في شخصيتك وهالتك التي تتمرّد على كل سلبٍ يمتصّ منك إرادتك وطاقتك.
الشهيد السعيد—لم يكن هناك أمرٌ يغلب إرادته—مفعم بالنور والحيوية، ساكنةٌ روحه الشفوية، متقد الهمة.
تتكلم جوارحه قبل لسانه بالذكر، وجلباب روحه وبدنه العفو والرحمة، فكان محطة التذكرة بالله سبحانه، وأنّ عيناه ولسانه لم يُخلَقا شططًا، بل لأجل تفعيل الإيمان في قلب من يراه ويعاشره. تلك صفةٌ يتصف بها العظماء من أهل الرسالة والشريعة.
فهل من رحلةٍ إلى عالم الملكوت اختصّها الله سبحانه لقلبِ من يحب، وكانت له حبوةٌ مذخورة في العُلى ومذكورة عند أهل الله في أرضه؟!..
نعم، هناك من يعمل للآخرة دون غيرها، من يذبّ بساعدَيه لتحيا البدائل الرضية في القلوب العامرة بذكره، ومن يكن وجدانه رافضًا لأي ظلمٍ مخالف للطبيعة البشرية؛ فلا وجاهة مقبولة عند الله إلا من كان وجيهًا بالله ورسوله وآل بيته.
إن الله سبحانه يهب الكرامات ويلبسها قميصًا نقيًا لأهل طاعته، شرطَ أن تكون تلك النفوسُ مُوجِلةً غير عاجزةٍ عن ذكره وذائبة في صلاته.. حزنها مطويّ الأسرار، وفرحها ظاهر الأقدار.
السيد محمد رضا الشيرازي رحمه الله، من الذين تقلبت نفسه الزاكية في حزنٍ دائمٍ لمصائب أهل البيت، وكانت عينه قريرةً بانتظار فرج آل محمد.
لم يكن شخصه مبهَمًا وغامضًا؛ فكل من يراه تُثار في نفسه مكامن لم يكن يطّلع عليها إما لتجاهل أو لنسيان، فتُثار هذه الدفائن وتبكي الجوارح شوقًا إلى الصلاة والذكر والإيمان، وتتعلق الروح بحب ذرية المصطفى الأعظم، وتعيش حالة التجلي والتراقي الأعظم مع الله سبحانه، فيشعر بعضهم أنّ روحه تعلّقت ببرزخ الأمل والراحة السرمدية.
اليوم كما هو الأمس، تُعاد علينا ذاكرة فوز هذا الجليل بشهادته، وانتصار كلمته وعلمه الذي هو علم آل المصطفى محمد ووصيّه علي بن أبي طالب؛ فكل منهج لا يقوم على هذا الطرح القويم لا يناله افتخار الفوز، بل يتدحرج إلى حيث الخسران المبين.
وقد أشار إلى ذلك في قوله:
(إذا خسر الإنسان كل شيء وربح آخرته، فإنه ربح كل شيء)
وهذا هو مقياس الربح في الدنيا؛ أن يُختصر للآخرة فقط.
فأيُّ جهدٍ وجهادٍ أفضل من كلمة السيف؟! وأيُّ قلمٍ قد استقام بذكر الله سوى حبره الذي جعل الظالمين تفتضح بتخبّطاتها؟!
ليس إلا خُلُقه الرفيع الذي تجلّد بالصبر، وهمّته التي تورّعت عن محارم الله، وشخصيته التي قدّت الإهمال إلى نصفين؛ فنصفٌ منه استحال إلى فوج أفكارٍ وأنشطةٍ لبناء هيكلية الإنسان الإيمانية، والنصف الآخر إلى أبوابٍ متّسعةٍ من البرامج العلمية المبطّنة بالنماء الروحي… والذي تفرّد به السيد الرضا دون غيره لترتيب أولويات رحلة الإيمان وامتزاجها بوجدان المستمع.
يقول الشهيد الرضا رضوان الله عليه:
(عندما يعيش الإنسان أجواء الآخرة يتحوّل تحوّلًا عجيبًا، ويترفّع عن سفاسف الدنيا، ويسمو نحو آفاق الآخرة الرحيبة.)
إنه الفوز الذي فرض نفسه على ساحة التوجيه والبلاغ. لقد فاز سماحته بعدة امتيازات لا يسع المكان هنا لطرحها، بل نوجز أهمها:
سماحة الخُلق
في كل تعاملاته المادية والمعنوية، وتطابقها مع واقعه الذي استمده من فطرته، وذوبان عقليته الإدراكية لعلم آل محمد، واعتماده التسلسل وإيداع الكلمة بيت القوة والصرامة والصدق في قول الحق والحقيقة، وقد قلّدها سيفًا مخضرمًا بأفكار المنهج معتمدًا بذلك على الرواية وأصحابها الأتقياء.
وبذلك استطاع بأسلوبه أن يلج الضجيج وهو مقتنع بما يفعل، يردّ المدلهمات دون صوتٍ مزعج، ويلاطف التوتر بالرضا لما هو آتٍ.
وهذا هو البديل المطلوب لمواجهة أي إعاقةٍ ثقافية، كما أشاد رضوان الله عليه:
(يجب على المؤمن أن يمتلئ قلبه بالرجاء برحمة الله في أعتى المشكلات الشخصية).
لحن القول، واستخدام البديل
وانسيابيته إلى أسماع الحاضرين والمستمعين، واندراجه ضمن قائمة التوعية المتميزة بالنوعية الفاخرة لتغذية أذهانٍ مفتقرةٍ للحل السلمي…
حتى صنع سماحته للسيف معنى بديلاً لضراوته، جعل منه غطاءً وشفاءً للروح؛
فيمكن للسان أن يكون أحدّ من السيف ويصنع المعجزات في مسيره، وصوتًا أبعد صدى، والكلمة ربما تقتل أو تنعش.
ومن هنا تفهم الذات أنه لا خوف على قول الحق، ولا ضياع للنفس وسط المفارقات، والسعي في استخدام أبسط ما يعتقده الإنسان صادقًا لإحاطة نفسه بالعلوم التي ترافقه إلى نهايةٍ سعيدة—إن كان بالإمكان.
الحنكة والاقتدار
إن المحنَّك والقارئ لأسلوب الواقع يعرف كيف يغزو ثغرات الحاجة الثقافية في المجتمع، حتى يوازنها بدرايةٍ تامة وبطريقةٍ تسلب لُبَّ المطرق لهذه البوابة.
ولكي ينجح في ذلك مبدأً، لا بد أن تلوكها نفسه أولًا، ويعيش أجواءها ثانيًا.
لقد كانت روح السيد المقدس رحمه الله تعيش بين أطناب الخطاب قبل أن يقولها حرفًا، ولم يقل جملةً هذرًا أبدًا إلا ولها سببٌ ومسبّب، حتى يقنع المستمع والمتتبع تدريجيًا، وتترك على أسماعه لمسةً إيجابية.
شذرات من مختارات الكَلِم للسيد الشهيد السعيد الرضا الشيرازي (قدّس سرّه):
• الإنسان إذا تحوّل إلى حاكم—على دائرة صغيرة—فإنه معرّض لأن يتحوّل إلى جبّار.
• الزهد في المعيشة يشكّل الراحة العظمى للإنسان في الحياة، كما إنه الطريق للابتعاد عن الهموم والقلق والاضطراب.
• مقياس المؤمن هو عدم تأثره بخسارته لثروته.
• كلما زادت نقاط القوة في النفس الكبيرة، ازداد التواضع والخضوع.
• يجب على الإنسان ألا يتكبر وألا يتعامل مع الآخرين من خلال الحواجز.
• على الإنسان تنمية قابلية الورع بدلًا من ارتكاب الذنب والتوبة.
• التبعية الثقافية هي أخطر أنواع التبعية.
ونختمها بقوله المبارك:
• العراق بحاجةٍ إلى ربع مليون عالم، ليتمكن كل عالمٍ من إدارة مئة شخص.
فلتكن العقول العالمة مقتدرة ومدركة لحجم القضية وقداسة المنهج، وألّا تستخدم واجهتها الثقافية لترميم النقص فقط، بل لتهذيبها لخدمة المبدأ والدين وحفظ ميراث العلماء والاعتزاز بخطواتهم إلى الأبد.








اضافةتعليق
التعليقات