فاطمة تبكي، والليل ينوح معها، وأمّة السوء تضطرب خوفًا من خذلانها بيت النبوّة.. وحكاية المسمار والضلع اهتزّ لها العرش والبيان، وعتبة قد لطّخت بدماء المهجة قسوةً وغيلةً.. سوطٌ ودرعٌ قد اغتالا بيت التعبّد والتقى، حقدًا عازمًا على قطع أوتاد النبوّة والولاية، وخنق تعاليم السماء، وتمزيق صحيفة العهد والاستهانة بها وتجاهلها.
قالت الزهراء (عليها السلام):
«لا تُصلّي عليَّ أُمّةٌ نقضت عهدَ اللهِ وعهدَ أبي رسولِ اللهِ في أميرِ المؤمنين عليّ».
هذا الخطاب له باعٌ أطولُ أمدًا، يخطو حدود الزمن، لأن هناك ألسنةً كالسياط تُسيء إلى فاطمة الزهراء، وتشكّك في مظلوميتها، وتصرّح بذلك! أيّ جرأةٍ استحوذت نفوس البشر، وأيّ انتهاكٍ لحرمة الرسول (صلّى الله عليه وآله)! إنها عقولٌ نُوكى، لا تفهم مسارها، ولم تدرك توهّمها.
أيُّ عالمٍ فضفاضٍ وسقيمٍ هذا الذي يبتلع لقمة الطيش، ويستغني، ويعبد الله على حرف!
إن قبضة التراب أسرابٌ من لهيب المأساة، وعُمرٌ تجاوز الصبر، والزهراء على منتجع الشهادة، جسمٌ فجيع، ومقلةُ الدمع حرّان يفيض خصمًا على من آذى ضلعًا ويفجعه.
يحنّ الدارُ لفاطمة، وحائطُ الذاكرة يعبد أطراف العبادة، والفرقان مكبَّل الوصية لا يحتال على التاريخ وهمّته.
إنه اعتصامُ الطاعة، وظاهرةٌ من لونٍ خضيب، ومسمارٌ أصابه المسّ من ضياء الفاجعة، والدمُ دموعٌ طاهرةٌ استوعبت وجهَ الله حين صاحت وناحت وتوجّعت من سوط الشيطان اللعين.
(اليومَ ذكرُ اللهِ فارقَ أُنْسَهُ، اليومَ وجهُ الصبحِ ودَّعَ شمسَهُ)
فأنتِ كلُّ الأنس يا فاطمة، لعليٍّ والمنهجِ وكلِّ المعارف. اقتضى التكوينُ خلودَ ذِكركِ بلباس المظلوميّة، وانحنى ضلعكِ وصدرُكِ للشريعة ومرادها. فلا لذّة للعلوم إلا بذكر فاطمة ومودّتها وحديثها، وقد التمس الجرحُ مواساةً لذاك الجرح الذي تخضّب دمًا وهو صريع الرمضاء.
وما أعظم التقاء الفجائع لهدفٍ واحدٍ وتشابهها: (فاطمة والحسين) — قمةُ الرفض وصدقُ التضحية لله تعالى.
ذاك شمرٌ وهذا زنيمٌ من فصيلة الشيطان الرجيم، وما صفعةُ الغريم التي أدمت رضيعكِ المحسن الشهيد إلّا شهادةٌ للمبدأ، وتكليمٌ للحقيقة على عِظم ما جرى، إذ افتُضح جيبُ الكفر في دار العرش.
(لما ضُرِبَ الحسين بن عليٍّ عليه السلام بالسيف فسقط، ثم ابتُدِر ليُقطع رأسُه، نادى منادٍ من بطنان العرش: ألا أيّتها الأمة المتحيّرة الضالّة بعد نبيّها، لا وفّقكم الله لأضحى ولا لفطر)
[الوسائل: ج10]
لقد غضب الله على تلك الأمة، وحرَمها البركةَ والتوفيق، وأغرقها في الابتلاءات.
يا ليت الشهاب يقضي دينَه ويُلقّن النفاقَ درسًا جديدًا. إنّ شانئهم هو الأبتر.
في دلائل الإمامة، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في حديثه عن مصحف فاطمة (عليها السلام):
«أُنزِلَ عليها بعد موت أبيها... فلمّا أراد الله عز وجل أن يُنزله عليها، أمر جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أن يحملوا المصحف فينزلوا به عليها، وذلك في ليلة الجمعة من الثلث الثاني من الليل.
هبطوا به عليها وهي قائمة تصلّي، فما زالوا قيامًا حتى قعدت، فلمّا فرغت من صلاتها سلّموا عليها وقالوا لها: السلام يُقرئكِ السلام، ووضعوا المصحف في حجرها.
فقالت لهم: اللهُ السلام، ومنهُ السلام، وإليهِ السلام، وعليكم يا رسل الله السلام.»
لقد كان الكوثرُ معينًا سائغًا شرابُه لمن آمن واستقرّ، لأنهم العلمُ الحاضر في الأذهان، والغيبُ المطلوب لبلوغ الرضا، لهم أهلُ البيت.
وكم من شكرٍ ضاع بين طيّات الاستغباء، لأنه كان مطليًّا بالتهاون، منزوعَ الصدق، والمواقف مترهّلة، والنواة متزلزلة، أحسبها غائبةً عن الحقّ المبين.
الفضائح أدمت التاريخَ بالرزايا وتخلّت عن المزايا، أبدت غضبها على النور وصفعت باب الخدر، والوليد على صدر التكوين ساجدٌ للواقعة، وما أدراك ما الواقعة!
لقد كتب القدر أن يلتهب الظلام بشظايا الشيطان اللعين، ظنًّا منه أنه ينتصر، وما كيد الشيطان ببعيد.
فرجمه النور بوابل الدعاء، وقهر السيف حتى جعله يحبو طلبًا للصفح والإقالة، لكنّ الدم يغلي كطوفانٍ احتفظ به عنقُ العرش ينتظر الإذن بالفرج.
إنّ مصاب الزهراء البتول (عليها السلام) أودع همهمةً ثائرةً في قلوب كل محبّيها، فيغضب لغضبها كلّ أشياعها ويأخذ بحقّها.
إنّ ثقافة التدوين تحفظ كرامة الحديث، وتهب أرزاقًا لكوكب الأرض، فالعقل لا يكتمل إيمانه إلا بفتوحات العلم الواعي والمنطق الزاهي.
ولكي يفهم أصول الشرع ويتبع الغاية بدراية وفهم، لابدّ من دراسةٍ عميقةٍ مع بصيرةٍ بيضاء تستوعب الحرف وما يعنيه، والخلق وما يدريه.
فالأمة التي تتشبّع بالمعرفة تبقى عتيدةً ذات حصنٍ منيع، شرط أن تلتزم قواعد الحقّ، سواء في التعامل أو المواقف أو السلوك، وفي كل ما يمسّ الخُلق علميًا وعالميًا.
في قضية السيدة الزهراء (سلام الله عليها) يتمحّص القلب والقالب، وتُفلتر التصرفات، وتظهر النوايا، ويُفتضح الفاسق، والدمعة في كفّ الأجيال لا تضيع.
لقد قيل: «إنّ الشدائد تكشف ما كان فاسدًا من أصله وإن طال به الستر».
حقًا، في الشدة يُفرز الحقّ من الباطل، واللئيم من الكريم، والصادق من الكاذب، أمةً كانت أو فردًا، فكلّ شريحةٍ على وبالها تجول وتصول.
لذا عمد الظالمون إلى نبش قبرها بعد دفنها، رغم وصيّتها بإخفاء قبرها، لتثبت للعالم أنّ هؤلاء ليسوا من أمة أبيها رسول الله، ولولا سيف عليٍّ ووعيده لمن يجرؤ على ذلك لنبشوه.
فلا ينال شفاعتها كافرٌ أو فاجرٌ أو مستهينٌ بدينه وعقيدته، ومن باع ضميره لأجل نفوذ، أو آذى ذريةَ رسول الله.
فشفاعتُها — فاطمة بنت محمد عليهم صلوات الله — يفتقدها من لا يفهمها ولا يقدّسها.
لأن فاطمة هي الصلاة، والآيات البيّنات، هي ينبوع المعارف وأسرارها، هي الميثاق والوعد الذي وعدته، هي المحشر والميزان، هي القدر الذي قُدِّر، والشرع الذي شُرِّع، وجنّة المأوى.
هي الكتاب الذي ابتدأ بالحمد واختُتم بالواحد الأحد.
فالوجود كلّ الوجود بخدمة كينونتها، لأنها القطب والمحور، فلا ضياء إلا بنور فاطمة. يخضع لها قانون الخلق والقيامة، وطأطأت لها أبصارُ الملوك والملائكة والأنبياء والرسل.
قال الرسول الأعظم ﷺ:
«فيغضّ الخلائق كلّهم أبصارهم، فتجوز فاطمةُ على الصراط، لا يبقى أحدٌ في القيامة إلا غضّ بصره عنها، إلا محمدٌ وعليٌّ والحسن والحسين والطاهرون من أولادها فإنهم محارمها.
فإذا دخلت الجنة بقي مرطُها ممدودًا على الصراط، طرفٌ منه بيدها وهي في الجنة، وطرفٌ في عرصات القيامة.
فينادي منادٍ من ربنا:
يا أيها المحبّون لفاطمة، تعلّقوا بأهداب مرط فاطمة سيّدة نساء العالمين.»
فكيف يجرؤ الزنيم على ضربها ورفسها؟ وكيف يعمد إلى إجهاض جنينها؟ وكيف يُحرق باب النبوّة دارَها، ويروّع أبناءها؟ وكيف يتعدّى على بهجة الرسول وقلبه؟
ويعمد إلى قتل الولاية، عليٍّ زوجها؟
هي الخطاب الغيبي الذي ابتدأ به الرسول دعوته، وأصرّ على اتباعه من بعده، وهي محور التمجيد والتهليل، وأكبر داعم لعمود الولاية.
والخطبة الفدكية مثالٌ ومزيجٌ رائع من الفكر والثقافة والبلاغة ودقة المعارف، يقف العلم مذهولًا من جلال عباراتها الغيبية وعمق إدراكها وسعة فصاحتها، التي خلقت من الأدب والكلمة عبّارةً لإيصال الفكر المحمدي، مع الإفادة بنقاط قوة الإسلام وجودة الرسالة التي لا مثيل لها في التاريخ.
تساؤلاتٌ واندهاشاتٌ تأخذ بلبّ كلّ متفكرٍ ومؤلّفٍ وعارف، لذا فالتاريخ مسؤولٌ عن كلّ غصّتها ودموعها وأنّاتها.
وكلُّ منهجٍ ودراسةٍ مطالَبةٌ بفتح ملفّ الجريمة التي أودت بقتل سيّدة نساء العالمين وذبح جنينها، والاستعداد لهموم الحاضر وفرز أدواتٍ لاستيعاب هذه المأساة.
على القلم الصادق أن يجثو إكرامًا لذكر مآثرها وحقّها ومظلوميتها، فهي شعيرةُ الاستقامة والدين.
وما شكوى فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلا دعاءٌ على الظالم، وعلى كلّ من يُنكر حقّها وينتقص من ظلامتها:
إلهي، أشتكي الأذيّة، قد عُطّلتْ يا خالقي الوصيّة، ثمّ اعتدى القوم على الزكيّة، رزيّةٌ ما مثلها رزيّة.
على كلّ فردٍ شيعيٍّ أن يُحيي الليالي الفاطميّة، ويعاتب قلبه إذا سها، لأنّ فاطمة هي السببُ المتّصل بين الأرض والسماء، وهي محور الثورات والمذهب، وهي القناة التي تسقي الروح بالأمان والعافية والفرج للحجّة المنتظر، لأنها الذكر الحكيم.








اضافةتعليق
التعليقات