على مثلِ جعفرٍ فلتبكِ الباكيةُ، قالها رسولُ الله (صلواتُ الله عليه وآله)، ودموعُه على خدِّه الكريم كأنها كوثرُ أحزانٍ على فقدِ الإنسِ والسندِ...
لأن جعفرَ بنَ أبي طالبٍ كان سيفَ النبيِّ وقوّتَه عند اشتدادِ الأَسِنّة، وهو الحامي والضدُّ في ساحةِ الوغى، وهو الثغرُ الذي لم يترك النبيَّ وحيداً يوماً.
ورد في مقاتل الطالبين في فضل جعفر، على لسان الرسول الأكرم:
عن أبي سعيدٍ الخدري قال: قال رسولُ الله (صلى الله عليه وآله):
«خيرُ الناس: حمزةُ وجعفرٌ وعليٌّ».
كان جعفر اللغةَ الأكثرَ شجاعةً آنذاك، والأمضى دفاعاً عن الحقّ المتجسّد في شخص النبيِّ ودعوته. في غزوة مؤتة يوم شهادته (عليه السلام)، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام) قال:
«أُصيب يومئذٍ جعفرٌ وبه خمسون جراحة، خمسٌ وعشرون منها في وجهه».
إنّ التاريخَ في بنائه الحضاري يعتمد على أفرادِ القدرة، وقوّة العقيدة والفكرة، ومتانةِ المبدأ، وسلامةِ هِمَم النفوس في الأفراد، وكيفيةِ فهم معدّات الحياة مع الإحاطة التامة بكل ظرف.
هذا يعني أن يكون الفرد واعياً، قادراً، مقتدراً، لا يعرف الهشاشة والضعف في تصرفاته ومواقفه، ولا التنازل عن معتقده. والمبدأ يبقى كما الثريا، فيه ومن النزاهة قلبٌ نابض إلى الأبد.
في جعفرٍ، (سلامُ الله عليه)، صفاتٌ حميدةٌ تفوق الوصف، الأمر الذي ترك أثراً في قلب الرسول حتى دمعت عيناه، وجعل يرثيه أمام الخاص والعام ومن على منبره.
عن جابرٍ الجعفي قال:
فلما كان اليوم الذي وقع فيه حربُهم، صلى النبيُّ (صلى الله عليه وآله) بنا الفجر، ثم صعد المنبر فقال:
«قد التقى إخوانكم من المشركين للمحاربة»، فأقبل يُحدّثنا بكرّات بعضهم على بعض، إلى أن قال:
«قُتل زيدُ بنُ حارثة وسقطت الراية، ثم قال: قد أخذها جعفرُ بن أبي طالبٍ وتقدّم للحرب بها، ثم قال: قد قُطعت يده وقد أخذ الرايةَ بيده الأخرى، ثم قال: قُطعت يده الأخرى وقد أخذ الرايةَ في صدره، ثم قال: قُتل جعفرُ بنُ أبي طالبٍ وسقطت الراية،
ثم أخذها عبدُ الله بنُ رواحة...»
وذكر ما جرى من قتلى المسلمين والمشركين بأسمائهم. هذه الشهادة من فاه النبوة تعني شهادةَ الغيب، وقد أقرّها الله سبحانه في شريعته، حتى أبدل اليدين بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة.
أي أنه من الصفوة وخير الأمة، وقد خصّه الله تعالى بالمنزلة العالية في مستقر رحمته، والروحُ التي تتقلّب كما تشاء تحوطها رحمةُ الله سبحانه في أعلى عليين.
من مثلك يا سيدي جعفر، وأنت الطيّار، وقد أثبته التاريخُ بحبره القاني بصبغة الأزل؟
من مثلك وقد شرعتَ للشهادة كتاباً وباباً ورسالةً مختلفة؟ من مثلك وقد بكت عليك الأنبياءُ والرسلُ والملائكة؟ من مثلك وقد امتاز شخصك الشريف الكريم بوسام المواساة والخصوصية في الذكر؟ لأنك حظيتَ بالاجتياز والنصرة من عند الله، ودافعتَ عن حبيب الله محمدٍ (صلوات الله عليه وآله)، فصدرك وذراعاك قد أهديتهما بإخلاص للنبيِّ ورسالة السماء، وحظيتَ بشكر الله عز وجل لتضحياتك وصلابتك ودفاعك عن بيت النبوة.
فنِعْم العبدُ أنت، أوّاباً، ونِعْم الشهيدُ وأنت المتفاني في الله، ونِعْم المواسي وأنت المعطي.
هل تكتفي الكلمةُ أو الشعرُ أو الرثاءُ في ترتيب مقاصدك وبيان علمك؟ فأنت أكبر من ذلك وأجلّ وأعظم، وأنت المضمون الذي غلب الصفات في عمق المعاني.
ورد في من لا يحضره الفقيه رواية عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام):
«أوحى الله عز وجل إلى رسوله (صلى الله عليه وآله): إني شكرتُ لجعفر بن أبي طالبٍ أربعَ خصال، فدعاه النبيّ (صلى الله عليه وآله) فأخبره، فقال:
لولا أن الله أخبرك ما أخبرتك: ما شربتُ خمراً قطّ، لأنّي علمتُ أن لو شربتُها زال عقلي، وما كذبتُ قطّ، لأنّ الكذبَ ينقص المروءة، وما زنيتُ قطّ، لأنّي خفتُ أن يُفعل بي مثلُه، وما عبدتُ صنماً قطّ، لأنّي علمتُ أنه لا يضرّ ولا ينفع.
قال: فضرب النبيّ (صلى الله عليه وآله) يده على عاتقه، وقال:
حقٌّ على الله عز وجل أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنة».
كل مؤمنٍ موالٍ لعليٍّ وآله يستطيع أن يحوز جناحَ الخلاص والمرتبة العالية عند الله ورسوله وآله، إن التجأ إلى كهفهم واقتدى بهم وفهم موازين الحياة، فيكون الناجي والفائز إن التحفت رؤاه ببصيرة الميامين.
الجناح يعني العلوَّ، يعني القامةَ العليا، يعني الدرجةَ الرفيعة، يعني شجرةَ طوبى، ويعني الفلاح والخروج من مأزق الابتلاء وسجن التخبطات، وبلوغ الأمنيات والصبر على النائبات.
قال الإمام العسكري (عليه السلام):
«من صبر أُعطي التأييد من الله».
إن جعفر الطيار، سلامُ الله عليه، من الصابرين. كان إذا دخل معمعة الحرب والأسنّة، تمخّضت جراحاته من أمام جسده ووجهه، وكان من المهاجمين دائماً لا من الفارّين أبداً.
وقد شهدت بحقه الآياتُ والرواياتُ لبسالته وقوّته وقيادته في الحرب. وقد صُنّف من الطينة المرحومة بقول رسول الله صلوات الله عليه وآله، في أمالي الصدوق:
عن ابن عباس قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يومٍ، وهو آخذ بيد عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو يقول:
«يا معشر الأنصار، يا معشر بني هاشم، يا معشر بني عبد المطلب، أنا محمدٌ رسول الله،
ألا إني خُلقتُ من طينةٍ مرحومةٍ في أربعةٍ من أهل بيتي: أنا، وعليّ، وحمزة، وجعفر».
ذلك يعني أن اقتران الصفات والأوصاف، ولو نسبياً، وارد جداً، ويؤكده ما ورد في المستدرك ج3 عن أمير المؤمنين (عليه السلام):
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لجعفر: «أنت أشبهتَ خلقي وخُلقي».
فالسلوك لا يتعدّى سلوك النبي، والهمة لا تغادر قلبه، كما قلبُ النبيِّ في تفانيه المطلق وذَبّه عن وجه الرسول في كل خطوةٍ يخطوها، وحمايته في كل لحظةٍ وكل غمضةِ عين.
حريصٌ أشدَّ الحرص على الدين والمذهب، ولذا عُدّ بيتُ جعفر الطيار من البيوتات الشريفة التي يُرفع فيها اسم الله بالغدوّ والآصال.
قال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام):
«بيوتُ آل محمدٍ: بيتُ عليٍّ وفاطمةَ والحسنِ والحسينِ وحمزةَ وجعفرٍ (عليهم السلام)».
فشخصيةُ هذا القائد تركت أثراً بالغاً في قلب الرسول، فلقياه تبعث سروراً وأنساً لشخصه العظيم، وأعطى انطباعاً بالخير والبركة لكل من قابله وعانقه وجالسه.
جعفرٌ وحمزةُ من أعمدة الهرم النبويّ، ومن حيث الأهمية يُعدّ كلٌّ منهما حصناً كاملاً.
وقد قال النبيّ صلوات الله عليه عند قدوم جعفر من الحبشة:
«ما أدري بأيّهما أنا أشدُّ فرحاً: بقدوم جعفرٍ أم بفتح خيبر».
فلما قدم جعفرٌ التزمه النبيُّ وقبّل ما بين عينيه، ثم حباه بصلاة التسبيح المعروفة بـ صلاة جعفر الطيّار، أو صلاة الحبوة.
وورد في أحاديث عديدة أنّ جعفرَ وحمزةَ هما أفضلُ الخلق بعد الأوصياء (عليهم السلام). وعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
«إنّ إلهي اختارني في ثلاثةٍ من أهل بيتي، وأنا سيدُ الثلاثة وأتقاهم لله ولا فخر،
اختارني وعليّاً وجعفراً ابني أبي طالبٍ وحمزةَ بن عبد المطلب. كنّا رقوداً بالأبطح، ليس منا إلا مسجّى بثوبه على وجهه:
عليٌّ عن يميني، وجعفرٌ عن يساري، وحمزةُ عند رجليّ، فما نبّهني عن رقدتي إلا خفيفُ أجنحة الملائكة، وبردُ ذراعِ عليٍّ في صدري، فانتبهتُ من رقدتي وجبرئيلُ في ثلاثة أملاك».
فهل منّا من يطيرُ بهمّتِه، ويقدِمُ على ربّه وقد امتلأ قلبُه بذكرياتٍ عامرةٍ بالذكر والإحسان؟
نحن نعيش على أطلال ذاكرةِ أهلِ النِّعَم. يحتاج ضميرُنا إلى صحوةٍ تُنجينا من عثراتِ الفقدِ ووخزِ الذنب. نحتاج إلى ذاكرةٍ تمدّنا بالضياء وتنشلنا من الضياع.
واقعُ اليوم تعمّه الفوضى وهلعُ الصدور، ولِما هو آتٍ نحن بأمسِّ الحاجة إلى شخصيةٍ جبّارةٍ كجعفر بن أبي طالب. نحتاج إلى حمزةَ سيّدِ الشهداء، فهم الكفايةُ لسدّ هذه الثغرات.
المدّ الشيعيّ حالياً تحوطه مؤامرةٌ كبرى، وكبواتُ الضالين لا تزال تسعى لطمسِ ذكر المودّة وخطاب الترتيل ومحو آثاره، ليأكلوا التراث أكلاً لَمّاً، ويحبّوا المال حبّاً جمّاً.
فهل نسابقهم برايات الهدى؟ أم نستقبلهم بالسكوت والهوان؟








اضافةتعليق
التعليقات