كان زيد يحلم كأي طفل بأن يكون نجماً في فصله، لكن أحلامه تحطمت كل يوم أمام جدار من اللامبالاة والقسوة، بيديه الصغيرتين المرتعشتين حاول أن يمسك القلم ويكتب إجابته لكن أصابعه لم تطاوعه، بينما سلم زملاؤه أوراقهم بثقة، ظل هو يتصارع مع السطور الأولى ثم جاء المدرس فجأةً، انتزع الورقة من بين أنامله وقال بفظاظة: "يكفينا تأخيراً، انتهى الوقت"، في تلك اللحظة، لم يكن زيد يبكي لأنه لم يكمل إجابته، بل لأنه فهم، مرة أخرى، أن العالم لا ينتظره.
وفي طريق العودة إلى بيته، كانت كل خطوة جرحاً جديداً، الحفر في الشوارع، النظرات التي تتراوح بين الشفقة والازدراء، وحتى الأرصفة المتكسرة التي تتعثر بها قدماه الضعيفتان، كل شيء يذكره بأنه "معاق" في هذا العالم، وعندما وصل إلى الباب وجد أمه تنتظره بعينين دامعتين، هي تعرف أن المدرسة ستكسر قلب ولدها من جديد، وتعرف أيضاً أن المجتمع ينظر إليه كـعيب يجب إخفاؤه، لا كطفل يستحق الحب والحياة.
والحقيقة المؤذية هل تعرف كم "زيداً" يعيش بيننا؟
قصة زيد ليست استثناءً، بل هي صرخة آلاف الأطفال ذوي الإعاقة الذين يُحكم عليهم بالفشل قبل أن تمنحهم الحياة فرصة ليس لأنهم غير قادرين، بل لأننا أعجز من أن نمنحهم وسائل المساواة.
-ففي المدرسة: مقاعد ضيقة، سلالم لا نهاية لها، معلمون غير مدربين، وفصول أشبه بزنازين العزل.
- في المستشفيات: أجهزة بأسعار خيالية، وعلاج يُباع كالرفاهية، بينما التأمين الصحي مجرد حبر على ورق .
- في الشارع: نظرات تُذيب الثقة، وكلمات جارحة تتحول إلى ندوب في الروح.
اذاً كيف نكسر القيود؟
ببساطة الأطفال لا يطلبون المعجزات، بل التشجيع:
1. مدارس بلا حواجز: إلزام كل مدرسة بأن تكون مهيأة لاحتضان كل طفل، بغض النظر عن إعاقته وهي من مهام الدولة لتكوين كوادر مخصصة لهم، بهدف دمجهم في المجتمع وتطوير قدراتهم، بأساليب الدعم النفسي الحديث فيكونوا يداً تحنو عليهم قبل أن تعلمهم وهذا مايحتاجه الأطفال المميزون دمجا يعيد لهم الحياة.
2. علاج ليس رفاهية: توفير أجهزة تعويضية وعلاجات مجانية، لأن الصحة حق، وليست امتيازاً للأغنياء وهذا مايرجوه الأطفال الذين يعانون من نقص جسدي ونفسي كتلك الطفلة التي تسحب كم ثوبها كلما تواجدت في مكان عام وتهرول مسرعة لإخفاء كف يدها المعاقة بين الحضور وهذا أصعب ما يمر به الانسان هو فقدانه لأحد أطرافه إذ يصبح شخصا ناقصا بنظر البعض متناسين أن الاعاقة تكمن بالفكر وليس بالبدن، فحينما تنتصر الارادة على ألم الفقد تجعل من المرء شخصا قويا يتصالح مع نفسه لمواصلة حياته دون التفكير بالانطواء أو حتى الانتحار، الأمر الذي يقوده إلى زيارة مراكز مختصة للمعالجة سواء كانت نفسية أو تركيب طرف صناعي بديل يشعره بالثقة أكثر دون اللجوء إلى مساند خاصة أو طلب مساعدة الآخرين، وهو الأمل الذي يرجوه كل طفل فقد جزءاً منه.
3. مجتمع يرى الإنسان قبل الإعاقة: حملات توعية، خطب دينية، وقصص نجاح تُظهر أن الإعاقة ليست نهاية الطريق، بل بداية تحدٍ يمكن تجاوزه، ببساطة هي بذرة يجب أن تزرع في قلب المجتمع ليكون ذلك البستان الذي لايفرق بين انواع ثماره فكلهم يرتوون من ذات الماء وتحنو عليهم نفس الأنامل .
أخيراً تذكر جيداً زيد ورفاقه ليسوا أرقاماً في إحصائية، ولا عبئاً على المجتمع، بل هم أطفالٌ يمتلكون أحلاماً مثلنا، الفرق الوحيد أنهم يحتاجون إلى يد تمتد إليهم، لا لتشفق عليهم، بل لتقول لهم: "أنت تستطيع" وهذا ينطلق من قبل المؤسس الأول لشخصية الطفل وهم العائلة حيث أنه لن يأبه للتنمر طالما هو يشعر أنه مكتمل بعين عائلته فإن شعر في أحضانهم بالنقص فكل ريح ستذكره بأنه غير كافٍ، لذلك العوائل الأحباء لديكم أطفال مميزون فكونوا لهم العون والحب والحياة، فلو عدنا إلى زيد في تلك الزاوية من الفصل، انظروا إليه مرة أخرى، ليس بوصفه ذلك الطفل الذي تأخر في تسليم ورقة الإجابة، بل بوصفه بحاراً صغيراً يحاول بيديه المرتعشتين أن يمسك بمجداف في بحر هائج، مجداف من فرص غائبة، وأرصفة محطمة، ونظرات ثقيلة.
الدرس الحقيقي الذي سندركه هو فشل مدرس زيد في فهمه هو أن الاختبار لم يكن في تلك الورقة، بل في قدرتنا نحن، كمجتمع، على أن نكون فصولاً حقيقية تستوعب كل البحارة الصغار، الفشل ليس في يد زيد التي لا تطاوعه، بل في أيدينا التي لم تتمدد إليه بما يكفي، لذا لن نحاول إصلاح "زيد" أو "رفاقه"، فليس فيهم ما يحتاج إصلاحاً، بل لنصلح مقاعدنا، ونمهد دروبنا، ونوسع قلوبنا، لنكون ذلك المجتمع الذي لا يسأل: "ما الذي تعجز عنه؟"، بل يسأل: "ما الذي تحتاج إليه لتنجح؟".
ففي النهاية، القيود التي تحطم أحلام زيد ليست في جسده، بل في عالمنا الذي نصنعه ضيقا، وعندما نوسع ذلك العالم، سنكتشف بدهشة، أن الطفل الذي ظنناه محطماً، كان يحمل في داخله كل هذا النور، وكان ينتظر فقط من يطفئ عنه ظلام الإهمال، ليرينا كم كان نجماً لامعاً طوال الوقت.








اضافةتعليق
التعليقات