في إحدى الليالي، في بيتٍ هادئٍ ظاهراً، مضاءٍ بالشاشات أكثر مما هو مضاء بالقلوب، تنادي الأم العائلة للعشاء، فيحضر الجميع ويجلسون على المائدة، ولكن الأب منشغل بتصفح الأخبار، والأم تمرر وصفات الطبخ والستايلات الجديدة، والأطفال كلٌّ في عالمه الصغير، أصابعهم تتحرك سريعاً بين اللعب والفيديوات القصيرة. القلوب ساكنة… أو لعلها متعبة. لا صراخ، لا شجار، لا ضحك ولا صوت كلام، هناك شيئاً ما مفقود، ذلك الشيء الذي سمّاه القرآن السكون.
ننظر اليوم إلى بيوتنا فنجدها عامرةً بالأجهزة، مزدحمةً بالمشاغل، فقيرةً في الطمأنينة. نتساءل بصمت:
هل ما زالت الأسرةُ ملجأً آمناً؟
هل يشعرُ الأبناءُ بالاحتواء، أم يعيشون تحت سقفٍ واحد دون دفءٍ حقيقي؟
يقول الله تعالى:« وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون».[1]
إنّ الزواجَ وتشكيلَ الأسرةِ ليسا مجرّدَ ظاهرةٍ اجتماعيّةٍ أو استجابةٍ لغريزةٍ فطريّة، بل هما من نِعَمِ اللهِ العُظمى التي أشار إليها القرآن الكريم بوصفها آيةً من آياته، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
والآيةُ في منطق القرآن ليست أمراً عابراً، بل علامةٌ هادفةٌ تقود الإنسان إلى التأمّل في الحكمة الإلهية الكامنة وراء التشريع، ويكون الهدف من تكوين الأسرة هو الوصول الى السكون كما في الآية الكريمة.
وقد حدّد القرآن الكريم الهدفَ الأساسَ من تكوين الأسرة بقوله تعالى: ﴿لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾، والسكون هو الاستقرار في مقابل الحركة وهو أعمّ من الاستقرار المادّيّ والروحيّ، والاستقرار الباطنيّ ويعبّر عنه بالطمأنينة ورفع الاضطراب والتشوّش[2]، فالسكونُ هنا لا يقتصر على الاستقرار المادّي أو انتظام شؤون الحياة، بل يشمل الطمأنينة النفسية، والراحة القلبية، والأمان العاطفي. إنّه سكونٌ يطفئ القلق، ويخفّف الاضطراب، ويمنح الإنسان شعوراً بالاحتواء والانتماء.
وعليه، فإنّ الأسرةَ التي لا توفّر هذا السكون، مهما توفّرت لها أسباب الرفاه الظاهري، تكون قد ابتعدت عن الغاية التي أرادها الله لها. فالمعيار الحقيقي لنجاح الأسرة ليس في شكلها الخارجي، بل في قدرتها على أن تكون مأوىً نفسيّاً وروحيّاً لأفرادها، ومصدراً للرحمة والمودّة كما عبّر القرآن الكريم.
وفي عصرِ العولمة يجب أن نسأل أنفسَنا: هل نشعرُ بالسكون والطمأنينة داخل أسرِنا؟ وبما أنّ الأسرة هي اللَّبِنةُ الصغيرة التي يُبنى عليها كيان المجتمع، فإنْ اعوجّتْ لبنةٌ في الجدارِ اعوجَّ البناءُ كلُّه وانهار. فهل لَبِنةُ الأسرة في مجتمعِنا اليوم لبنةٌ صالحةٌ سليمة؟ وهل ينشأُ الأطفال في بيئةٍ وأسرةٍ صالحةٍ سليمةٍ، تُشعِرهم بالسكون؟
الإحصاءاتُ لا تُبشّرُ بالخير، ففي أحدِ الإحصاءات لعام 2024 التي أُجريت في العراق، بلغَ إجمالي حالاتِ الطلاقِ المسجَّلة في سنة 2024 المنصرمة 72,842 حالةً مقابل 320,459 حالةَ زواج، وهذا يعني تقريبًا أنّ من كل أربعة زيجاتٍ ينتهي أحدها بالطلاق. هذا في الظاهرِ، أما الصراعاتُ والنزاعاتُ التي تقع خلفَ الكواليس بين الزوجين فهي كثيرةٌ، بعضها انتهى إلى طلاقٍ عاطفيٍّ وليس شرعيًّا ولم تُسجَّل أيّ إحصاءاتٍ له، وأطفالُ الطلاق الذين انهدم الأمانُ النفسيّ لديهم لهم تفاصيلٌ أخرى لم تُسجَّل في الإحصاءات.
هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر، واليوم قد احتلّت التكنولوجياُ كلَّ حياتنا، فأصبحت للأرقامِ صوتٌ آخر. ففي عام 2022، أجرى الباحثون استطلاعًا لآراء أكثر من 37 ألف طالبٍ في المدارس الثانوية في ولاية ويسكونسن الأمريكية، ووجدوا أنّ معدل انتشارِ القلق ارتفع من 34% في عام 2012 إلى 44% في عام 2018، مع ملاحظة زيادة أكبر بين الفتيات. كما لوحظت زياداتٌ مشابهةٌ لدى كلّ من الأولاد والبنات في الأمراض النفسية بحوالي 150٪ منذ عام 2010، بمعنى أنّ انتشار الاكتئاب تضاعف تقريبًا مرتين ونصف.
وفي عام 2020، قبل عمليات الإغلاق الناجمة عن جائحة كوفيد، وبعضها بعد ذلك، شُخّصت واحدةٌ من كل أربع مراهقات أمريكيات بالاكتئاب الشديد.[3] وكما ترون، تزداد الأمور سوءًا ونحن في عام 2025.
يجب علينا أن نقيّم أسرنا اليوم أنه هل نشعر نحن وأولادنا بالسكون والطمأنينة فيها؟! فاذا كان الجواب نفياً فيجب أن نفكر ونبحث عن الأسباب والحلول.
يقول الامام الحسن العسكري (عليه السلام):«نحن حجج اللّه على خلقه، وجدّتنا فاطمة حجة اللّه علينا»[4]، ويقول الامام المهدي (عجل الله فرجه الشريف): « في ابنة رسول اللّه لي اسوة حسنة»[5]، وأيضا عن الامام الصادق (عليه السلام):«وَهِيَ الصِّدِّيقَةُ الْكُبْرَى وَعَلَى مَعْرِفَتِهَا دَارَتِ الْقُرُونُ الْأُولَى»[6]، وحديثُ الكِساءِ الشريف لمولاتِنا فاطمةَ الزهراءَ (سلامُ اللهِ عليها) هو من الفُرَصِ الذهبية للنمذجةِ الصحيحة، لنُصلِحَ به أسرَنا ونبنيها، ونستطيعُ استلهامَ العديدِ من الدروسِ منها، وطبعا هذه الرؤية ستكون رؤية تربوية نفسية بغض النظر عن بُعد الغيبي والالهي والولائي لحديث الكساء:
v المرأة محور السكون والتماسك في العائلة: «فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: هُمْ فَاطِمَةُ وَأَبُوهَا، وَبَعْلُهَا وَبَنُوهَا»، إنّ هذا الأسلوب في التعريف يكشف عن مكانة فريدة لمولاتنا فاطمة (سلام الله عليها)، حيث جعلها الله محوراً لعائلتها، وعرّف الآخرين بالنسبة إليها، وهو أسلوب نادر في الخطاب الإلهي، يحمل دلالة تربوية عميقة، مفادها أن المرأة، زوجةً وأماً، تمتلك القدرة على أن تكون مركز السكون والطمأنينة داخل الأسرة.
فالمرأة، بما أودعه الله فيها من رقة، وذكاء عاطفي، وحسّ احتواء، قادرة على أن تعيد التوازن إلى العائلة، وأن تصنع جواً من السكون والاستقرار، تماماً كما يكون القطب محور الرحى. وليس المقصود هنا الانتقاص من دور الرجل، بل الإشارة إلى أنّ الله سبحانه منح المرأة قابلية خاصة لهذه المهمة الدقيقة، قد لا تتوفر بنفس الدرجة لدى الرجل.
ولا شك أنً هذا الدور ليس سهلاً، بل هو طريق مليء بالتحديات والتعب وكسر الخواطر أحياناً. وقد عبّر النبي (صلى الله عليه وآله) عن هذه الحقيقة حين شكت النساء إليه حرمانهن من ثواب الجهاد، فقال: «جِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبَعُّلِ»[7]، فكما أنّ الجهاد في ساحات القتال مليء بالأذى والتضحيات، فإنّ جهاد المرأة داخل الأسرة قد يتضمن صبراً وألماً وتجاوزاً، لكن ثمرته عظيمة، وهي رضا الله سبحانه، وتحقيق الطمأنينة داخل البيت.
ومن اللافت أن حادثة حديث الكساء وقعت في بيت أم سلمة، إلا أنّ الدور المحوري لفاطمة الزهراء (سلام الله عليها) في إدارة عائلتها كان من القوة والوضوح بحيث يتبادر إلى الذهن أنّ الحدث جرى في بيتها. فقد استقبلت أباها وزوجها وأبناءها وكأنها في منزلها، تؤدي دورها أينما كانت، لأنً حضورها هو الذي يصنع البيت، لا المكان.
لقد جمعت (سلام الله عليها) العائلة، واحتوت أفرادها واحداً واحداً، وأجابت السلام بأحسن منه، وبثّت الطمأنينة في القلوب، فصنعت بذلك جواً أسرياً حياً ومليئاً بالمودة والطمأنينة. وحين يرى الأطفال هذا الاستقبال الحار من الأم للأب، يشعرون تلقائياً بالأمان والحب والاستقرار.
ومن هنا، فإنً على المرأة أن تعيد الحيوية والهدوء إلى العائلة من خلال أخلاقها، وابتسامتها، وأسلوب استقبالها، وحضورها الإيجابي داخل البيت. كما ينبغي التنبه إلى أنً الصراخ والانفعال عند التعب قد يبددان السكون الأسري، ويؤثران سلباً في نفسية الأبناء. فالسكون لا يُصنع بالكلام الكثير، بل بالاحتواء، واللطف، والحكمة في إدارة تفاصيل الحياة اليومية.
v حفظ اقتدار ومكانة الأب في العائلة: « فَأَقْبَلَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبْو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ: ٱلسَّلاَمُ عَلَيْكِ يَا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ، فَقُلْتُ: وَعَلَيْكَ ٱلسَّلاَمُ يَا أَبَا الْحَسَنِ وَيَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ»، إنّ حفظ اقتدار الأب داخل البيت ليس مسألة شكلية ولا امتيازاً شخصياً، بل هو ضرورة تربوية ونفسية لسلامة الأسرة وتوازنها. فالأب يمثًل في البناء الأسري مرجعية القرار، ونقطة الارتكاز التي يشعر الأبناء في ظلها بالثبات والأمان. وعندما يكون اقتدار الأب محفوظاً، يدرك جميع أفراد الأسرة أنّ للبيت نظاماً واضحاً، وللعلاقات حدوداً مستقرة، وللأسرة جهة يرجع إليها عند الاختلاف.
والمقصود بالاقتدار هنا ليس القسوة ولا التسلط، بل الهيبة القائمة على الحكمة والمسؤولية والعدل. فالاقتدار الذي يقوم على الخوف يضعف الشخصية ويولد التوتر، أما الاقتدار الذي ينبع من الاحترام والثقة فيصنع أبناء واثقين، قادرين على الالتزام دون شعور بالضغط أو الإكراه.
ومن أهم مظاهر حفظ هذا الاقتدار عدم إضعاف مكانة الأب داخل البيت، ولا سيما أمام الأبناء، سواء بالكلام أو بالسلوك. كما يظهر ذلك في التوجه إليه عند دخول المنزل، وإلقاء السلام عليه، وتقديم رأيه، وإشراكه في شؤون الأسرة. فالأبناء يتعلمون معنى الانضباط واحترام النظام من خلال هذه التفاصيل اليومية البسيطة.
وقد أثبتت التجارب التربوية أنّ حضور الأب بوصفه مرجعاً ثابتاً ومتزناً يسهم في بناء الشعور بالأمان النفسي لدى الأبناء، ويعزز قدرتهم على ضبط الذات وتحمل المسؤولية. أما غياب هذا الاقتدار أو تمييعه فيؤدي إلى اضطراب الأدوار داخل الأسرة، ويترك فراغاً تربوياً قد يبحث الأبناء عن تعويضه خارج البيت بطرق غير آمنة، وعن الامام الرضا (عليه السلام): «عَلَيْكَ بِطَاعَةِ اَلْأَبِ وَبِرِّهِ وَاَلتَّوَاضُعِ وَاَلْخُضُوعِ وَاَلْإِعْظَامِ واَلْإِكْرَامِ لَهُ وَخَفْضِ اَلصَّوْتِ بِحَضْرَتِهِ فَإِنَّ اَلْأَبَ أَصْلُ اَلاِبْنِ».[8]
وللأم دوراً أساسياً في حفظ هذا الاقتدار وترسيخه داخل البيت. فالأم، بحكم قربها العاطفي من الأبناء وتأثيرها اليومي عليهم، قادرة على أن تكون الداعم الأول لمكانة الأب، أو العامل الأبرز في إضعافه من حيث لا تشعر.
إنّ طريقة حديث الأم عن الأب، وأسلوب تعاملها معه أمام الأبناء، واحترامها لقراراته، كلها رسائل تربوية صامتة يتلقاها الطفل ويحوّلها إلى قناعة راسخة. فعندما يرى الأبناء أن الأم تقدّر الأب، وتؤكد على مكانته، وتختلف معه بهدوء واحترام، يتعلمون تلقائياً معنى الهيبة المتوازنة، ويترسخ في أذهانهم احترام السلطة الأسرية دون خوف أو نفور.
أما حين يُنتقص من رأي الأب أمام الأبناء، أو يُسخر من قراراته، أو يُظهر الخلاف الزوجي بشكل علني داخل البيت، أو ينتقد الأب علناً أمام الأولاد، فإنّ ذلك يضعف اقتدار الأب تدريجياً، ويُربك وعي الطفل، ويهز شعوره بالأمان. فالطفل لا يفصل بين علاقة والديه، وبين إحساسه بالاستقرار، بل يرى في انسجامهما ضمانة نفسية له.
وفي حديث الكساء نرى هذا الدور لمولاتنا فاطمة (سلام الله عليها) يظهر بشكل واضح في أسلوب المخاطبة، والتبادر بالسلام، واستخدام الألقاب والكنى باحترام، وما يرافق ذلك من توقير وخدمة. فقد قدّمت سيدة الزهراء(سلام الله عليها) صورة عملية للأم الواعية التي تحفظ مكانة الأب، فأسلوبها في الخطاب لم يكن مجرد تعبير عاطفي، بل كان منهجاً تربوياً يرسخ الهيبة، ويعلّم الأبناء كيف يكون احترام الأب، وكيف تُبنى العلاقات داخل البيت على أساس المودة والنظام معاً.
v التّجمّع العائلي: «فَلَمَّا ٱكْتَمَلْنَا جَمِيعاً تَحْتَ الْكِسَاءِ»، لقد تكررت قضيةُ حديثِ الكِساءِ مراتٍ عديدة، ومن ذلك نستطيع أن نستلهِمَ أنّ الأسرةَ النموذجية هي الأسرة التي تجتمعُ أفرادَها كثيرًا مع بعضهم. عند اجتماعِ أفرادِ الأسرة مع بعضهم، سيشعرُ كلُّ واحدٍ بالأمانِ والراحة، خاصّةً الأطفال، وخاصةً عند التجمع حول وجباتِ الغذاءِ. وهنا يجبُ أن نؤكدَ أنّ التجمعَ الصحي الذي يوفّرُ الأمانَ والمحبّةَ يجب أن يكون خاليًا من أيّ تكنولوجيا أو أيّ مشتّتات، بحيث يتحدّثُ كلُّ أفرادِ الأسرة مع بعضهم، ويكون لديهم تواصلٌ بصريٌّ وسمعيٌّ متبادل. ونستطيع أن نقسّم هذه التجمعات إلى قسمين:
أ) الأول: التجمع مع أفراد العائلة من الدرجة الأولى، أي الأب والأم والأولاد. وهذا النوع من التجمع ينبغي أن يتحقق بشكل يومي، مرة واحدة على الأقل، ويفضل مرتين، ولا سيما في الأسر التي تستغرق فيها وظائف الوالدين معظم أوقاتهم، مما قد يسلبهم هذه الفرصة الثمينة مع أبنائهم.
إنّ إهمال هذا التجمع اليومي، ولو من دون قصد، يؤدي تدريجياً إلى البرود العاطفي والتشتت الأسري، حيث يفقد الأبناء الإحساس بالقرب والاحتواء، وتضعف الروابط داخل البيت. أما الاجتماع المنتظم، ولو لفترات قصيرة، فيسهم في تجديد المودة، وتعزيز الحوار، وبناء الشعور بالأمان الذي يشكل أساس السكون الأسري. يقول النبی الأکرم (صلی الله علیه واله): «اِنَّ اللّه يُحِبُّ المُؤْمِنَ وَيُحِبُّ اَهْلَهُ ووُلْدَهُ واَحَبُّ شَىْءٍ اِلَى اللّه تَعالى اَن يَرَى الرَّجُلَ مَعَ اِمْراَتِهِ وَوُلْدِهِ عَلى مائِدَةٍ يَاْ كُلونَ، فَاِذَا اجْتَمَعوا عَلَيْها نَظَرَ اِلَيْهِم بِالرَّحْمَةِ لَهُمْ، فَيَغْفِرُ لَهُم قَبْلَ اَن يَتَفَرّقُوا مِنْ مَوْضِعِهِم.»[9]
ب) القسم الثاني: التجمع مع الجد والجدة وباقي أفراد العائلة
ينبغي أن يكون لهذا النوع من التجمع برنامج منتظم، لا يقل عن لقاء أسبوعي، لما له من أثر تربوي واجتماعي عميق، لا سيما في نفوس الأطفال. فهذه اللقاءات تعزز روح الانتماء، وتقرّب المسافات بين الأجيال، وتمنح الطفل شعوراً بالامتداد الأسري والأمان الاجتماعي.
ويمكن استقراء أهمية هذه التجمعات من خلال الروايات الكثيرة التي تحث على صلة الرحم، وتؤكد آثارها المباركة في العمر، والرزق، واستقرار النفس. فصلة الرحم ليست مجرد علاقة اجتماعية، بل هي منهج تربوي يسهم في نقل القيم، وترسيخ الهوية، وبناء شخصية متوازنة قادرة على التواصل واحترام الآخر.
v التوجّه الى الله عند اجتماع الأسرة: «فَلَمَّا اکْتَمَلْنا جَمیعاً تَحْتَ الْکِساَّءِ اَخَذَ اَبى رَسُولُ اللَّهِ بِطَرَفَىِ الْکِساَّءِ وَاَوْمَئَ بِیَدِهِ الْیُمْنى اِلَى السَّماَّءِ»، يقول الباحث الأمريكي جوناثان هايت:«لدى كل منا خلأ وحفرة تميل الى الله نسعى جميعا الى ملئها، في حياتنا التي تُركِّز على الهواتف، نتعرض لكمٍّ هائل من المحتوى، الكثير منه مُختارٌ بواسطة خوارزميات ومُفروضٌ علينا عبر إشعاراتٍ تُقاطع كل ما نفعله. إنه أمرٌ مُرهِق، وكثيرٌ منه يحطّنا في بُعد الإلهيٍ والمعنوي، فعلينا استعادة السيطرة على مُدخلاتنا اليوم.»[10] ونحن نعيش أزمةً معنويةً ونفسيةً في المجتمع، وبالأخص في الأسرة، يمكننا أن نستفيدَ من اجتماعِ العائلة لإحياءِ هذه المعنوية وملئها، مثل قراءة بعض الأدعية معًا، كحديثِ الكِساء أو زيارةِ عاشوراء أو دعاءِ الندبة.
v ذكر فضائل اهل البيت(عليهم السلام) عند الاجتماع العائلي: «ما ذُکِرَ خَبَرُنا هذا فى مَحْفِلٍ مِنْ مَحافِلِ اَهْلِ الاَْرْضِ»، يقول الباحث الامريكي جوناثان هايت ايضا:« ما نُعرِّض أنفسنا له مهمٌّ للغاية. إن لم يُملأ روحنا بشيء نبيل وعظيم، فسرعان ما سيملأه المجتمع الحديث بالقمامة. لكن مضخة النفايات في مواقع التواصل أصبحت أقوى بمئة مرة منذ العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين»[11]، من الجيد أن تستغلَّ الأسرةُ تجمعَها بذكرِ بعضِ الأحاديثِ وفضائلِ أهلِ البيت (سلام الله عليهم)، للاستفادةِ النفسيةِ والمعنوية، وأيضًا لإيجادِ موضوعٍ شيّقٍ للبحثِ والتحدثِ عنه، ويمكن أن يفتحَ بعد ذكرِ الأحاديثِ بابًا للبحثِ والحوارِ مع بعضهم.
v الاحترام المتقابل بين كل افراد العائلة مع بعضها، الزوج للزوجة، والزوجة للزوج والوالدين للاولاد والاولاد للوالدين: نجد الاحترام في كل من كلام فاطمة الزهراء(سلام الله عليها) وباقي اهل البيت(عليهم السلام) و مخاطبتهم الجميلة بالفاظ وكنى لبعضهم البعض والسلام واجابة السلام، ففي جو هكذا يحيط بالاحترام والمحبة فهل سيلجأ الانسان الى مكان اخر غير العائلة؟!
v توقير الطفل وذكر ايجابياته واظهار المحبة له: « فَقُلْتُ وَعَلَیْکَ السَّلامُ یا وَلَدى وَیا قُرَّهَ عَیْنى وَثَمَرَهَ فُؤ ادى»، فنرى أنّ مولاتَنا فاطمةَ (سلامُ اللهِ عليها) كانت تُجيبُ سلامَ أطفالها الصغار، وتُخاطِبهُم بألقابٍ جميلة. وهذا الثناءُ يساهم في بناءِ شخصيةِ الطفل، إذ يُحدِثُ أثراً معنويّاً داخله يؤدّي في النهاية إلى تكوينِ شخصيةٍ أكمل، كما أثبتَ ذلك علمُ النفس. والمقصودُ هنا هو التوقيرُ لا التدليلُ الزائد.
ويقولُ الشاعرُ مُشيراً إلى أهميّةِ ذلك: «إنَّ الغُصونَ إذا قَوَّمتَها اعتدلتْ * وليس ينفعُكَ التقويمُ للحَطَبِ».
وتحميلُ الطفلِ قَدراً من المسؤولية يُعينُه على إثباتِ ذاتِه وبناءِ شخصيّتِه؛ فحاجتُه إلى التقديرِ والأمانِ والمحبّة هي الطريقُ إلى تحقيقِ الذات، إذا وفَّرها له الوالدين، كما يؤكّدُ ذلك العالِمُ النفسيّ ماسلو(maslow). وقد رتّب ماسلو احتياجاتِ الإنسان في هرمٍ تكونُ المحبّةُ والاحترامُ قاعدتَه. فإذا نالَ الطفلُ الاحترامَ والمحبّةَ استطاع أن يصلَ إلى قمّةِ هذا الهرم، وهي تحقيقُ الذات. أمّا الطفلُ الذي يُحقَّر داخل الأسرة، أو يُؤنَّب دائماً على أفعالِه، أو يُنعتُ بما لا يليقُ به، فلن يتمكّنَ من تحقيقِ ذاتِه.
v الإدارة الصحيحة في علاقة الموجودة فيما بين الأولاد: وهذا نستنتجه مما قالته (عليها السلام) لولدها الحسن (عليه السلام): «یا قُرَّةَ عَیْني وَثَمَرَةَ فُؤادي» ولولدها الحسين (عليه السلام): «وعَلَیْکَ السَّلامُ یا وَلَدي وَیا قُرَّهَ عَیْني وَثَمَرَهَ فُؤأدي»، أنه يجب ابراز المحبة للطفل الأصغر أكثر ولكن في نفس الوقت يجب أن يكون ابراز المحبة بصورة أن لا تثير الحسد والكراهية عند باقي الأخوة.
v تعزيز الترابط بين الأجداد والأحفاد: اليوم، في عصر الحضارة والتسارع التكنولوجي، نشأ كثير من الأجداد في بيئة لم تكن التكنولوجيا جزءاً من تفاصيلها اليومية، مما أسهم في اتساع الفجوة بين الأجيال (Generation gap)، ومع تطور أساليب التواصل وأنماط الحياة لدى الجيل الجديد، أصبح بعض الأجداد يشعرون بعدم القدرة على فهم هذا الجيل أو التفاعل معه، فآثروا الابتعاد، بحجة اختلاف اللغة والسلوك ووسائل التعبير.
غير أنّ هذه الفجوة تشكل خطراً تربوياً كبيراً، لأنها تعيق انتقال القيم، والحِكم، والتجارب النبيلة من الأجداد إلى الأبناء والأحفاد. فحين ينقطع هذا التواصل، تفقد الأسرة أحد أهم مصادرها التربوية، ويخسر الجيل الجديد رصيداً غنياً من الخبرة والحكمة، لا يمكن تعويضه عبر الوسائط الرقمية أو المحتوى الافتراضي.
ولحل هذه الفجوة، لا بد من الالتفات إلى الأمر من ناحيتين أساسيتين:
أ) إظهار الجد عطفه ومحبته وحكمته لأحفاده
إنّ إظهار الجد عطفه ومحبته لأحفاده وأسباطه ليس مجرد سلوك عاطفي، بل هو موقف تربوي ذو بعد ديني عميق. فالإسلام يؤكد على صلة الرحم، ورحمة الصغير، ويجعل الأسرة الممتدة مجالاً طبيعياً لنقل القيم والإيمان من جيل إلى جيل. وعطف الجد يمثل أحد مظاهر هذه الرحمة التي تحفظ توازن الأسرة، وتغذي الجانب النفسي والروحي للأبناء.
وفي حديث الكساء يظهر هذا المعنى بوضوح، حيث نرى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجمع أبناءه وأسباطه تحت الكساء، في مشهد مليء بالحنان والاحتواء والاهتمام. إنّ هذا الحضور العاطفي من الجد، حين يقترن بالوقار والحكمة، يترك أثراً بالغاً في نفوس الأحفاد، فيربطهم بالقيم الدينية لا من خلال الوعظ المباشر، بل عبر التجربة الحية والقدوة العملية. فيشعر الطفل أنه محبوب ومكرم، وأن انتماءه الأسري والديني مصدر قوة وأمان.
ب) توقير الجد والجدة من قبل الأحفاد: ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: « وَقِّرُوا كِبَارَكُمْ وَاِرْحَمُوا صِغَارَكُمْ وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ»[12]، وايضاً: «اَلْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ»[13] وفي رواية أخرى: «اَلشَّيْخُ فِي أَهْلِهِ كَالنَّبِيِّ فِي أُمَّتِهِ»[14]، وهذه الأحاديث تضع التوقير في موقعه الصحيح بوصفه قيمة دينية وتربوية لا غنى عنها في بناء الأسرة المتماسكة.
فلو كان بيننا نبي من أنبياء الله، كيف كنا نجلّه ونحترمه؟ كذلك ينبغي أن يكون تعاملنا مع أجدادنا وجداتنا، فهم مصدر البركة، وحَمَلة الحكمة، وجذور العائلة. غير أنّ كثيراً من مظاهر التوقير، مثل تقبيل اليد، أو القيام للكبار، أو إفساح المكان لهم في المجالس، أو تقديمهم في الحديث والرأي، بدأت تضعف وتضمحل في واقعنا المعاصر.
وإحياء هذه السلوكيات لا يعني العودة إلى مظاهر شكلية فارغة، بل هو إحياء لقيم الاحترام والسكون والانضباط داخل الأسرة. وقد جسدت فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذا المعنى بأسمى صوره، في كيفية توقيرها لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، واحترامها له، وسعيها للتخفيف عنه بخدمتها، كما جسده اميرالمؤمنين والحسنين (عليهم السلام) كأبناء في أسلوب خطابهم معه، واستئذانهم في الجلوس بين يديه. وهكذا يتعلم الأبناء أنّ التوقير ليس ضعفاً، بل وعيٌ أخلاقي، وبناءٌ لشخصية متزنة تحفظ القيم وتصل الأجيال بعضها ببعض.
وختاماً نتساءل أنه في خضمّ التحديات المعاصرة، حيث تتسارع التكنولوجيا، وتضعف الروابط الإنسانية، وتُعاد صياغة مفاهيم الأسرة والهوية تحت عناوين الحداثة والتحرر، تقف الأسرة اليوم أمام امتحان حقيقي: هل تبقى ملاذاً للسكون والطمأنينة، أم تتحول إلى إطار هشّ يجمع الأفراد دون روح؟
لقد حاولت بعض التيارات الفكرية الحديثة، وعلى رأسها الفِكر النسوي المعاصر، أن تعيد تعريف دور المرأة خارج سياق الفطرة والرسالة، ففصلتها عن الأسرة، وصوّرت الأمومة والزوجية على أنهما عبء أو عائق أمام الكمال الإنساني. وكانت النتيجة في كثير من المجتمعات مزيداً من التفكك، وضياع الهوية، واتساع القلق النفسي، لا سيما داخل البيوت.
في مقابل ذلك، يقدم لنا الإسلام، ومن خلال سيرة مولاتنا فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، نموذجاً متكاملاً للمرأة الكاملة، لا بوصفها كائناً تابعاً، ولا باعتبارها خصماً للرجل، بل باعتبارها محور السكون، وصانعة الحياة، وقلب العائلة النابض بالإيمان.
ويأتي حديث الكساء ليجسد هذا النموذج عملياً، لا كنصّ يُتلى فحسب، بل كمنهج حياة. ففي هذا الحديث نرى أسرة تجتمع على المحبة، ويقودها التوجّه إلى الله عزّوجل، وتحكمها الاحترام المتبادل، وتُدار بحكمة الأم، وهيبة الأب، وحنان الجد، وتوقير الأبناء. أسرة صنعت السكون، فاستحقت أن تكون موضع نظر الله ورحمته.
إنّ بناء أسرة مؤثرة ومهدوية في زمن الاضطراب لا يكون بتقليد النماذج المستوردة، ولا بالانبهار بالشعارات الحديثة، بل بالعودة الواعية إلى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، واستلهام قيمهم في تفاصيل الحياة اليومية. فالعائلة التي تتربى على حديث الكساء، وتتشكل على أساس رضا الله سبحانه وتعالى، تكون أسرةً قادرة على تربية جيل يعرف طريقه، ويثبت على الحق، وينتظر الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) بالعمل، لا بالشعارات.
وهكذا، فإنّ الأسرة التي تسير في طريق السكون، وتستنير بنور فاطمة، وتتشبث بقيم أهل البيت، هي الأسرة التي تبني الإنسان، وتصنع المجتمع، وتمهّد لظهور العدل الإلهي، وهي في كل ذلك لا تطلب إلا رضوان الله تبارك وتعالى.








اضافةتعليق
التعليقات