إن التعمق في جذور الذكاء الاصطناعي يعود بنا إلى الحضارات القديمة في حضارة بلاد الرافدين والحضارات الصينية والمصرية والشامية ثم اليونانية والرومانية والإسلامية وغيرها، أين فكر الإنسان خلال هذه الحقب في صنع آلات تستطيع النفكير والتحرك ذاتيا تساعده في الوظائف اليومية.
إن الذكاء الاصطناعي هو فعلا ملحمة إنسانية تضرب جذورها في عمق التاريخ. وكان أول من وضع الأسس "التطبيقية" لهذه الآلات التي مهدت لعلوم الروبوتيك من جهة، ومن جهة أخرى الخوارزميات التي أسست لعلوم الحوسبة، هما العالمين المسلمين الجزري (المدعو بأب الروبوتيك) في مجال الروبوتيك والخوارزمي في مجال الخوارزميات، كما نجد علماء آخرين مثل موسى بن شاكر وأبناؤه (الذين برعوا كذلك في الحيل) وقد اشتهر العلماء المسلمين أثناء الفترة العباسية خاصة وفترة الحضارة الأندلسية "تزامنيا"، غير مألوف في مجالات الهندسة التطبيقية والكيمياء وعلم الفلك والطب وغيرها، ولا يمكن أن ننكر طبعاً أن المسلمين قد عرفوا في فترة العصر الذهبي، إضافة إلى تأليف كتبهم (التي تدعی بالكتب المؤسسة)، بترجمة النصوص والعلوم اليونانية والاغريقية والفارسية وحتى الصينية والهندية وغيرها مع احترامهم لذكر المصادر وتجنب السرقات العلمية، لأن دينهم كان يحثهم على الصدق والأمانة ونسب الفضل لأهله، وكان أهم حدث تاريخي سمح بنقل شعلة الحضارة من المشرق إلى الغرب هو سقوط بغداد سنة 1252م على يد المغول.
انتقلت جل الكتب والمخطوطات الاسلامية التي نجت من الحرق والتدمير بعد ذلك إلى أوروبا عن طريق القسطنطينية. وباعتراف أكثر المؤرخين الغربيين انصافا بهذا الفضل فلا شك أن العلماء الأوربيين الأوائل في عصر النهضة كانوا قد أخذوا وأسسوا علومهم ابتداءً من علوم المسلمين المؤسسين كالفارابي وابن سينا وابن الهيثم والطوسي والرازي والخوارزمي وغيرهم المئات، والتي هربها أحفاد المغول بعد ذلك، والذين دخلوا الاسلام وأسسوا القسطنطينية محطة انبعاث الحضارة العثمانية، بعد أن أحرق أسلافهم مكتبة بغداد و"دار الحكمة" التي يعتبرها المؤرخون "أول مركز بحث علمي بالمعايير الحديثة في التاريخ".
ولعل من بين أهم الأسماء التي نقلت الكتب والمخطوطات من العربية إلى اللاتينية يبرز اسم أديلارد البائي الذي قال يوما: "لقد تعلمت من أستاذي العربي أن أزن كل شيء بميزان العقل" وهذا ما بدأ الغرب بالاعتراف به حديثا وغيرهم من المستشرقين، ثم انتقلت هذه العلوم إلى علماء الغرب الذين طوروها من أمثال ليوناردو دافنشي الذي يعد من أعظم المهندسين في التاريخ، وبليز باسكال وغوتفريد لا يبنیز ثم منهم إلى المعاصرين من أمثال فون نويمان وشانون ومينسكي وغيرهم عبر فترة انبثاق العصور الحديثة وبروز الصناعة والتقنيات وازدهار العلوم لغاية يومنا هذا.
بدیع الزمان الجزري "أبو الروبوتيك" بديع الزمان أبو العز إسماعيل بن الرزاز "الجزري" (1136م - 1206م)، اشتهر بالجزري لأنه من أبناء "جزيرة ابن عمر" الواقعة في الأقاليم السورية الشمالية على نهر دجلة، هو عالم ميكانيك عربي مسلم من أعظم المهندسين والمخترعين في التاريخ، وكان من أوائل من فكروا ونجحوا في صنع آلات ذاتية الحركة، تعمل بدون تدخل البشر.
عاش الجزري في دیار بكر (تركيا حاليا) واشتغل بها ككبير المهندسين، ودخل في خدمة ملوكها ابتداءً من سنة 1174م، واستمر لمدة خمسة وعشرين سنة. اهتم بالدين والعلم معا، وعرف بذكائه وتألقه منذ الصغر، فبرز في علم الميكانيك والهندسة واختراع الآلات والساعات ورافعات الماء، وبالرغم من أن الجزري يعتبر من كبار المهندسين والمخترعين في التاريخ، إلا أن المعلومات عن حياته ليست كثيرة، وكل ما يعرف عنه ما كتبه عن نفسه في كتابه الأشهر الذي نشر سنة 1206م: الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل ويعد هذا الكتاب (وهو نتاج أكثر من خمسة وعشرين سنة من الدراسة والبحث) من بين أهم مؤلفاته، حيث جمع فيه بين العلم والشرح النظري من جهة، والتطبيق العملي التفصيلي المبسط بالرسم من جهة أخرى.
ويعتبر هذا الكتاب واحدا "من أروع ما كتب في القرون الوسطی عن الآلات الميكانيكية والهيدروليكية"، وقد ترجم لعدة لغات ويوجد في المتاحف العالمية. لعل من أشهر اختراعات الجزري "ساعة الفيل" واختراع عمود الكامات "Camshaft" المستعمل في محركات السيارات، بالإضافة إلى اختراعه لما يعرف بالمسنات الدقيقة، وميزان الساعة والكثير من الآلات الأخرى مثل مضخات رفع الماء، والساعات المائية الشمعية ذات نظام عد وتنبيه ذاتي، وصمامات وتروس التحويل، وأنظمة تحكم ذاتي وغيرها من اختراعاته التي لا يسعنا ذكرها ويسمى الجزري اليوم عند الكثير من رواد التكنولوجيا "بالأب الروحي للروبوتات"، لأنه أول من اخترع آلة على هيئة رجل منتصب ذات تنبيه ذاتي تساعد على الوضوء. كما اعتبره الكاتب والمؤرخ البريطاني "جيم" وأعظم صانع ساعات في التاريخ.
اضافةتعليق
التعليقات