الكثير من أرباب الفكر والأدب من المسيحيين المعاصرين رأوا في الإمام علي عليه السلام صورة الشخصية الفريدة التي لا يمكن أن يأتي الزمان بمثيل لها من خلال تكامل صفاتها واكتمالها. لذلك رأى المفكر السياسي والأديب الشاعر (جوزيف الهاشم) في الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام حقيقة ثابتة لا تقبل الطعن ولا يمكن للتاريخ أن ينثر غباره الكثيف عليها أو أن تقتلع عواصفه وأمواجه الجذور القوية لها مهما تقادمت السنون: فالإمام المرتضى عليه السلام هو السيد المطلق والإمام الأوحد لكل ميدان من ميادين الحياة وهو – كما يراه الأستاذ الهاشم – سيد من حمل السيوف وإمام من تكلم بلغة الحروف، فهو عليه السلام السيف الإلهي الذي لا ينبو، وهو الكلمة الإلهية والجذوة السماوية التي لا تخبو، وبتعبير آخر هو ما وصفه الأستاذ (الهاشم) بقوله:
هو الإمام "حسام الدين"، فارسه ما زغرد السيفُ إلا بين قبضته
يد النبوة شــــــدت عـــزم ســـــاعــده وأطـــلقته إماماً من طــــــفولته
سيد البيان، "باب العلم" مشترعاً، والفقه مذ كان نهجٌ من بلاغته
هو العلي، وصي الإرث، فابتهجوا ووزعوا البشر، واحكوا عن ولايته
فإذا كان الإمام علي عليه السلام بالنسبة للأستاذ جوزيف الهاشم هو: الحسام وهو الإمام وهو سيد البيان وباب العلوم وهو الوصي العام على الإرث المحمدي العام.
وإذا كان الأستاذ الهاشم ينظر إلى الإمام علي عليه السلام على أنه "العلي" في كل المحامد والخصال ومراتب المجد، وفوق كل ذلك ولي المؤمنين، فماذا بقي بعد ذلك من أوصاف؟! بل ماذا بقي لغيره عليه السلام من أصحاب الرسول الكريم – صلى الله عليه و آله وسلم – بعد كل ما قاله الأستاذ الهاشم؟ ثم، ألا يذكرنا وصف الأستاذ جوزيف الهاشم للإمام علي عليه السلام بوصف الشيخ عبد الله العلايلي له عليه السلام عندما تكلم عنه قائلاً:
"شاء الحق أن يقدم نموذجه فكان علياً.. وشاءت الإنسانية العليا أن تعترض متألقة في أفق الأحياء فكانت علياً...".
فالإمام علي عليه السلام هو أنموذج الحق الإلهي الذي بعثه الله سبحانه وتعالى بيننا ليثبت لقلوبنا أن رب السماوات والأرض المرموز إليه بالكمال والجمال والجلال هو حق لا مراء فيه، وأنه سبحانه وتعالى فوق كل النعوت والصفات، بل وهو أيضاً فوق ما يخطر في بالنا، وهو غير ما تتوهمه عقولنا، وقد شاء الله الواحد الأحد عز وجل أن يدلنا على كماله وجلاله في سماواته. فأهدى إلينا ترجمة حية وصورة صادقة لنموذجه في السماء، فكان ذلك النموذج الحي هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام على الأرض.
وقد عبر ابن أبي الحديد المعتزلي عن هذه الفكرة قبل الأستاذ جوزيف الهاشم وقبل الشيخ العلامة السني عبد الله العلايلي بوقت طويل، فقال واصفاً الإمام علي عليه السلام في قصائده (العلويات):
صفاتك اسماء وذاتك جوهر بريء المعاني من صفات الجواهر
يجل عن الأعراض والأين والمتى ويكبر عن تشبيهه بالعناصر
أما الراهب الفرنسي (لويس غارديه)، المولود في عام/1904/ والمتخصص في دراسة الفكر والحضارة الإسلامية، فلا يكتفي باعتبار الإمام علي عليه السلام محط أسرار الرسول المصطفى – صلى الله عليه وآله وسلم – ومستودعه، ولا يتوقف عند حدود اعتبار أن الرسول محمداً – صلى الله عليه وآله وسلم – قد كشف للإمام علي عليه السلام حقيقة الكلام السماوي الإلهي الخالد والمعاني العميقة له لدرجة أن جوهر علي عليه السلام قد تألق بأطياف المعاني القدسية للحقائق الإلهية المتجلية في كتابه الكريم، بل يعتبر (غارديه) أن "الأئمة الاثنا عشر معظمون جداً، فكلهم وهب العصمة والمعرفة المطلقتين اللتين تجعلان منه – من الإمام – أشبه بانعكاس لصفاء العلم الإلهي على الأرض".
وإن دلّ هذا الكلام على شيء فإنما يدل على أن الإمام علياً عليه السلام قد بلغ – في نظر العديد من المفكرين والأدباء المسيحيين – درجة الكمال في قربه من الله سبحانه وتعالى حتى أنه بلغ درجة قاب قوسين أو أدنى من العلي الأعلى.
وما من أحد يبلغ هذه الدرجة العالية إلا من أخلص فخلص، واتقى فارتقى، فتحولت نفسه إلى مرآة أمينة للتجلي الكمالي والصفاء الجلالي، فكان هو المقصود بقوله تعالى في حديثه القدسي: "عبدي! أطعني، أجعلك مثلي. أنا حي لا أموت، أجعلك حياً لا تموت.. أنا أقول للشيء كن فيكون أطعني فيما أمرتك تقول للشيء كن فيكون".([1])
ولذلك، فعندما نقول إن الإمام علياً عليه السلام الذي أراقت أقلام المفكرين والأدباء المسيحيين مدادها في سبيله وفي سبيل نشر فضائله ومبادئه، هو حقاً أمة في إمام، فإننا نعني بذلك أن نموذج شخصيته الفريد، وتكامل ذلك النموذج إلى الحد الأقصى الذي يمكن أن يتقبله العقل البشري، هو الذي جعل منه – بنظر المسلمين والمسيحيين – تلك النسخة الفريدة التي لم يكررها الله بين خلقه وعباده.
وهذا ما عبر عنه المفكر والفيلسوف اللبناني (شبلي الشميل) (1853- 1917) بقوله: "الإمام علي بن أبي طالب، عظيم العظماء، نسخة مفردة لم ير لها الشرق ولا الغرب صورة طبق الأصل قديماً ولا حديثاً".
من كتاب (الإمام علي عليه السلام في الفكر المسيحي المعاصر) لمؤلفه راجي أنور هيفا
[1]- السيد حسن الشيرازي: كلمة الله
اضافةتعليق
التعليقات