تبهت بعض النجوم ولا تكاد تبين بجوار أخرى، تخفت رويداً رويداً مع ضوء الشمس، لكنها تبقى تومض للبعض وتشع في عينيه لتغدو نوراً زائفاً لصاحبها فتدله على طريقٍ نهايته الهاوية.
هكذا هو الأمان الزائف، يعيش الإنسان أعمى البصيرة في كنف وهمه لفترة من الزمن، وقد تمتد إلى آخر حياته، يظن بعقله المحدود ونظرته الضيقة أنّ القرار الذي اتخذه _بين خيارات عديدة_ هو الأصح، ليكتشف لاحقاً زيف الشعور الذي رام الوصول إليه، فيكون حاله: "ولات حين مناص".
هذا الشعور هو مشكلة نفسية واجتماعية خطيرة تؤثر في مراكز القرار عند الفرد والمجتمع، ويرتبط بعدة آليات منها: الإنكار، التبرير، الخوف، القلق، والتوتر المرتبط بمواجهة الحقيقة، والتي غالباً ما تنهار لاحقاً، وتساهم عدة أدوات في تعزيزه، ومنها الاعلام والتضليل.
وفق تعريف قاموس علم النفس للجمعية الأمريكية APA الأمان الزائف هو "تصور الفرد بأنه في مأمن من الخطر بينما هو في الحقيقة معرض له، غالبًا نتيجة سوء فهم أو تضليل أو إنكار الواقع".
وهناك عدة دراسات حول هذا المصطلح النفسي الشائع، وقد لا تكون بعنوان مباشر لكنها تحمل ذات السياق، نذكر منها دراسة نفسية شهيرة للدكتور "نيل واينستين" تناولت هذا المفهوم، تقول "يميل الناس إلى أن يروا أنفسهم محصنين ضد الأحداث السلبية، مقارنة بالآخرين، حتى عندما لا يكون لديهم مبررات واقعية لذلك".
حيث وجد الباحث أن الأفراد يميلون إلى الاعتقاد بأنهم أقل عرضة للمخاطر المستقبلية من غيرهم (مثل الإصابة بمرض، الطلاق، حوادث السير…). هذا التفاؤل غير الواقعي (unrealistic optimism) يولّد شعورًا زائفًا بالأمان يجعلهم يتجاهلون اتخاذ تدابير وقائية حقيقية.
هذا النوع من التفكير يُعتبر أحد أشكال التحيّز المعرفي (Cognitive Bias) الذي يعزز "الأمان الزائف"، ويؤثر سلبًا في سلوكيات الوقاية، مثل تجاهل الفحوص الطبية أو الإفراط في المخاطرة.
هناك الكثير من النماذج العملية لهذا المصطلح، نورد منها مثالين مهمين يندرج تحتهما الكثير من الأمثلة الأخرى:
ضمان زائف:
يشعر الكثير من الموظفين ولا سيما في القطاع الحكومي، بالأمان النفسي الزائف، فوفق هذه العقلية هناك "دخل ثابت" ففي نهاية كل شهر راتب محدد وثابت ومستمر، وامتيازات مثل التقاعد، والنتيجة: صدمة مفاجئة عند فقدانها نتيجة لعدة ظروف طبيعية وغير طبيعية، فدوام الحال من المحال، فالحكومات قد تتغير واقتصاد الدول قد تتدهور وخيار الحروب متاح دوماً وفق الأمزجة والمصالح، هذا عدا عن الكوارث الطبيعية أجارنا الله واياكم.
وبنظرة متفاءلة أكثر بعيدة عن الزلازل وأخواتها، يولّد العمل الوظيفي حالة عدم التطور الشخصي ويستنزف الوقت والجهد، مقابل العمل الحر الذي يحفّز الابداع ويدرّ أموالا أكثر ربما.
وفي الحقيقة، على الإنسان ألاّ يضمن شيئاً في هذه الدنيا؛ فالضمان الوحيد هو رزق الله.
ثقة زائفة:
وتتنوع أشكالها، فقد تكون علاقة مع شخص أو مع سلطة أو قائد، أو حتى مع نفسك.
فالاستمرار في علاقة مدمرة في سبيل الأمان النفسي المضاد للخوف من الوحدة، هو شعور زائف يستهلك الانسان ويشل من قراراته.
الصديق الالكتروني الذي يصنعه المراهق ينبع من أمان زائف يفتقد إلى العمق.
السلطة تعد كثيرا وتقلق على مواطنيها لكن تحكمها المصالح دائماً وأبداً فلا تثق بها مطلقاً.
ومهما كنت ماهراً ومتمكناً في أي مجال، لا تقع في شرك المثالية، فالتعرض للخطأ وارد، والاحتياط واجب.
عاشوراء.. غربال الزائفين
كانت أيام الطف المفجعة معدودة، لكنها زاخرة بالعِبر فضلاً عن العَبرات، وتمتلئ صفحات عاشوراء بمواقف لشخصيات وقعت في هذا الفخ؛ فخ الأمان والحماية الزائفة.
نذكر هنا موقفاً واحداً جمع الكثير من المبررات التي يختبئ وراءها كل خاذل للحق.
عبيد الله بن الحر الجعفي، له موقفين يعبّران عن فكرة الأمان الزائف.
1_ خرج من الكوفة قبل ما يقارب الشهر من استشهاد الامام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، خشية أن يدخلها الإمام ويتخلّف عن نصرته، إذ يقول في ذلك مخاطباً رسول الحسين إليه "والله ما خرجتُ من الكوفة إلا مخافة أن يدخلها الحسين وأنا فيها ولا أنصره، لأنه ليس في الكوفة شيعة ولا أنصار إلا مالوا إلى الدنيا، إلا من عُصم منهم".
2_ رفض نصرة الإمام واقترح عليه مقابل ذلك فرسه وسيفه وأن يعيد أسرته إلى المدينة، وقال في ذلك مخاطباً ابن رسول الله "هذه فرسي المحلقة فاركبها، فوا الله ما طلبتُ عليها شيئاً إلا أدركته، ولا طلبني أحد إلا فته، حتى تلحق بمأمنك".
وفق تعريف "الأمان الزائف" تصوَّر ابن الحر بأنه في مأمن من الخطر بابتعاده المادي عن الواقعة، ثمّ بعد ذلك يتوهم بأنّ تقديمه الفرس والسيف للإمام هو تعويض عن خذلانه.
استقت ماء قرارات ابن الحر ماءها من عدة أفكار ومشاعر وبالطبع أهمها هو ضعف العقيدة ومن ثمّ الخوف من الموت مقابل التنازل عن أفضل الموت وهو الشهادة!.
فرأى أنه بذلك سيكون محصّناً ضد الأحداث التي ستقع في الحرب، مقارنة بالآخرين، _وهم أصحاب الحسين_ وبالطبع من دون مبررات واقعية!
ومن ثمّ محدودية تفكيره بأنّ الماديات تكفي أمام بذل النفس. وقد ظن أنه اتخذ تدابير وقائية حقيقية!.
لينبت أماناً زائفاً مثل جناحي ذبابة، لكنه مؤقت.
فنور الأمان الحقيقي لم يدخل لقلبه، لأنه كان يحتاج إلى تنظيف أولاً.
قلب ابن الحر كان مليئاً ب الخوف الدنيوي والتضليل الأموي وسوء فهم وتقدير للموقف وانكار لواقع خطورة الرفض، الرفض أمام من؟
رفض طلب نصرة من إمام زمانه!.
وبالطبع لم يقبل الإمام فرسه وسيفه، فلو قبل بها كان سيعزز ذلك الأمان في قلب ابن الحر وفي قلب كل سامع لحكايته، لكنه قال له: "إذا بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا بمالك"، وتلا هذه الآية "وما كنت متخذ المضلين عضدا".
ورحمةً لهذا الشخص نصحه الامام:
"إن استطعت أن لا تسمع صراخنا ولا تشهد واعيتنا أو وقعتنا أو وقفتنا، فافعل. فوا الله لا يسمع واعيتنا أحد ثمّ لا ينصرنا إلا أكبه الله على منخريه في النار".
إذن، خسر ابن الحر كرامة القتال بين يدي ابن رسول الله والشهادة مع ولده وأصحابه. وعاش حياتاً ملئها الحسرة والخسران وسوء العاقبة.
وكان في آخر حياته يضرب يده على الأخرى ويقول: "ما فعلت بنفسي"، وكان يردد أشعار الندم منها:
فلو فلق التلهف قلب حي
لهمّ اليوم قلبي بانفلاقِ
فقد فاز الأولى نصروا حسيناً
وخاب الآخرون أولوا النفاقِ.
وظل ابن الحر هارباً لكن هذه المرة من ابن زياد الذي لامه على ترك نصرة يزيد، وتفرّق عنه أصحابه، وختاماً رمى نفسه بالفرات ورموه بالسهام حتى مات.
عملة زائفة
يُقال "العمران يشتري بعملة مزوّرة هي الأمان الزائف ليصادر الحرية بهذا الثمن البخس".
نعم الأمان الحقيقي يتطلب تخلّياً _وهنا يكون الاختبار_ ومن ثمّ امتثالاً، _وهنا تكمن القوة_ وأن تنتزع الخوف من قلبك أمام ضمان حقيقي واحد في هذا الوجود وهو الله.
قد نستنكر فعل وقول ابن الحر، ونتعجب من موقفه أيما تعجب، لكن ألم نهرب نحن أيضاً من بعض المنعطفات الايمانية التي ظهرت في طريقنا يوماً ما؟
ألم يُبعث لنا يوماً برسول؟
ترى ماذا لو أصبحنا أمامه وجهاً لوجه؟
فترى، لو طلب منّا اليوم إمام زماننا أمرٌ يماثل أو يشبه أو ربما يختلف عن طلب الامام من إبن الحر، فماذا سنفعل؟
قد لا يطلب الامام روحك، قد يكون شيء أعزّ وأصعب، ربما ابنك أو مالك أو شيء تعرفه أنت، ربما الكثير منّا سيقول للامام خذ هذا عوضاً عن هذا، ولات حين مندم حين سيكون جواب الامام لنا: لا حاجة لي بذلك!.
وهنا ستنكشف زيف أو صدق مقولتنا "ونصرتي لكم معدة".
اضافةتعليق
التعليقات