في زمنٍ تتسارع فيه الثقافات، وتتداخل فيه المفاهيم، لا بدّ أن نعيد التفكير في أدواتنا التربوية، فالصراخ لم يعد يجدي، والضرب لم يعد يُنتج، والمراقبة لا تثمر إلا في حضورها. إن التربية الحقيقية لا تُقاس بعدد الأوامر التي أُصدرت، بل بعدد القناعات التي استقرت في أعماق الطفل حتى غدت جزءًا من وعيه وضميره.
حين يتمكن الوالدان من غرس قناعة صادقة في قلب الطفل، فإنهما يمنحانه حصنًا نفسيًا يحميه من التغيرات الخارجية، ويهبه مناعة ذاتية ضد الانجراف في مجتمعات قد تختلف عنه في القيم والسلوك. ومتى ما استقرت القناعة، بات السلوك انعكاسًا داخليًا لا فعلًا متصنّعًا يذوب عند أول اختبار.
لا تخف على طفلك إن شبّ في بيئة غربية ما دمت قد زرعت في قلبه نور الفهم، وقوة البصيرة، وأشبعت عقله بالحب لا بالخوف. لأن القناعة، حين تُزرع بالحكمة والموعظة الحسنة، تبقى ثابتة لا تهزها العواصف، ولا تغيرها المغريات.
ولنا في سيرة النبي محمد ﷺ أبلغ درس، حين أتاه رجل في مجتمع مفتوح، وقال له بلا مواربة: "يا نبي الله، إني أحب الفاحشة!" موقف كهذا في زمننا قد يُقابل بالصدّ، بالشتائم، وربما بالعقوبة، لكن النبي ﷺ لم يصرخ، لم يغضب، بل احتضن هذا السؤال الشائك بعقل المربي العظيم وروح الحبيب الرحيم.
اقترب الرجل حتى لامست ركبته ركبة النبي ﷺ، فقال له بلينٍ وهدوء: "ألك أم؟" قال: نعم. "أتحب أن يُفعل بها ذلك؟" قال: لا. واستمر يسأله عن ابنته، أخته، عمته، وخالته، وفي كل مرة يعترف الرجل برفضه لتلك الفعلة بحق من يحب. فقال له النبي ﷺ: "ولا الناس يحبون ذلك لنسائهم."
ذلك الحوار القصير كان كافيًا لقلب القناعة في داخله رأسًا على عقب. يقول الرجل: "دخلت على رسول الله ﷺ، وما من شيء أحب إليّ من الفاحشة، وخرجت وما من شيء أبغض إليّ منها." بهذه البساطة، وبهذا العمق، استطاع النبي أن يُحوّل الشهوة إلى حياء، والأنانية إلى احترام، والرغبة العابرة إلى وعيٍ راسخ.
هكذا يكون الإقناع، لا بالعنف، بل بالاقتراب من الفطرة، وتحريك المشاعر الإنسانية، وربط الأفعال بالنتائج على من نحب. هذه الطريقة لا تُغيّر السلوك فقط، بل تُغيّر القلوب.
إن الردع يجب أن يكون آخر العلاج، حين تفشل كل الوسائل، أما البداية فهي دوماً بالحوار، وبناء الجسور لا الحواجز. تربية الأطفال اليوم تحتاج إلى صبر المحاور لا عصا الغاضب، إلى دفء القرب لا قسوة البعد.
امنح طفلك مساحة ليُعبّر، اسأله، اجعله يفكر، ولا تلقّن دون تفسير. فالمناعة الحقيقية لا تأتي من الممنوعات، بل من الإقناع العميق. فإذا نجحت في غرس الفكرة، فلن تقلق على ابنك أينما ذهب، لأن القناعة التي صنعتها داخله، ستظل ترشده ولو كنت غائبًا عنه.
اضافةتعليق
التعليقات