إن شهر رمضان -كما يُعبرون- أنه "المرآة التي نرى من خلالها وجوه قلوبنا"، وهذه المرآة هي عبارة عن محطات متنوعة وفي أوقات مختلفة يَطل بها الإنسان على معبوده ليرى حقيقة نفسه، ويكتشف بها قابلياته وحقيقة عبوديته له، ومن هذه المحطات هي محطة السحر التي يَمضيها المؤمن بالدعاء والمناجاة والاستغفار والتسبيح والتفكر بحاله.
ومن أهم أدعية السحر هو "دعاء أبي حمزة الثمالي" الذي نستطيع أن نقول: إنه مشروع كامل لإحداث التغيير في نفس الانسان لما يَحمله من معارف ومعاني في كل فقراته التي تُري الانسان وتكشف له حقيقة نفسه بما يمر به وسيمر به في رحلته في هذه الحياة، محطات تُعرفه إلى أين هو سائر؟ وهل هي وفق ما يُريد المحبوب أم خلاف ذلك؟.
وإحدى هذه المحطات هي فقرات تبين لنا "موانع قرب العبد من الرب" وذلك عبر فقرات متعددة، يُبين لنا بها إمامنا زين العابدين (عليه السلام) تلك المواطن التي تجعل العبد غير قريب من ربه كما في هذه الفقرات: "اَللّـهُمَّ!.. اِنّي كُلَّما قُلْتُ قَدْ تَهَيَّأتُ وَتَعَبَّأتُ وَقُمْتُ لِلصَّلاةِ بَيْنَ يَدَيْكَ وَناجَيْتُكَ، اَلْقَيْتَ عَلَيَّ نُعاساً اِذا اَنَا صَلَّيْتُ، وَسَلَبْتَني مُناجاتِكَ اِذا اَنَا ناجَيْتُ.. مالي كُلَّما قُلْتُ قَدْ صَلَحَتْ سَريرَتي، وَقَرُبَ مِنْ مَجالِسِ التَّوّابينَ مَجْلِسي، عَرَضَتْ لي بَلِيَّةٌ اَزالَتْ قَدَمي، وَحالَتْ بَيْني وَبَيْنَ خِدْمَتِكَ؟!..".
فالصلاة هي من أهم الكواشف عن حقيقة علاقة الانسان واتصاله بربه، فهي مرآة لعكس صفاء القلب وطهارته وخلوه من التعلق مما عدا الله سبحانه، حتى أن علماء الأخلاق يقولون: إذا أردت أن تعرف ما هو الذي يشغل قلبك؟ فأنظر ما هو الذي يرد في ذهنك عند الشروع بالصلاة، هل هي خواطر إلهية، أم غيرها من الخواطر الدنيوية...!.
لذا فتعظيم الله سبحانه في النفس، والتأدب بحضرته، بل واستشعار هيمنته وشهوده على كل أحوالنا موجب لتحقق الصلة، وصلاح السريرة، فيتحقق بذلك الاتصال بالرب القريب المتعال.
ثم يبدأ الامام (عليه السلام) بإدراج الأسباب المؤدية لانقطاع هذه الصلة، وعدم صلاح السريرة بقوله: "سَيِّدي لَعَلَّكَ عَنْ بابِكَ طَرَدْتَني، وَعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَني... اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني مُسْتَخِفّاً بِحَقِّكَ؛ فَاَقْصَيْتَني... اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني مُعْرِضاً عَنْكَ؛ فَقَلَيْتَني... اَوْ لَعَلَّكَ وَجَدْتَني في مَقامِ الْكاذِبينَ؛ فَرَفَضْتَني.. اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني غَيْرَ شاكِر لِنَعْمائِكَ؛ فَحَرَمْتَني...".
تُرى هل يطرد الله تعالى أحد ما واقفا على بابه؟! أم إن الانسان يغفل عن طرق باب ربه المفتوح دائما بانتظاره؟!
فوحده ممن يولي وجهه عن مولاه، لا ينال الوجاهة عند ربه المتعال!
فالطرد يتحقق بإعراض العبد عن أوامر سيده ومولاه، فالعبد هو يتولى طرد نفسه بنفسه لا إن الله تعالى يطرده حاشاه، فهو المقبل علينا على كل حال.
بلى! فالوقوف بباب الله تعالى يتطلب حضور قلبي فقد يعمل الانسان عمل هو صالح وحَسن لكن بقلبٍ ساه غير ملتفت، فيكون البدن واقف عند الباب، والقلب في غير مكان، فهذا قلب غير صادق في توجهه.
كذلك عدم وضع نعم الله تعالى في محلها فشكر النعم يكون بتسخيرها في ما خلقت لأجله، فمن ينظر بجارحة العين لما لا يجب وليس لما فيه تفكر واعتبار، الذي يسمع بجارحة الأذن للحرام لا ما فيه موعظة ونفع، الذي يسير بجارحة القدم فيما لا يرضي الله تعالى هذه من موجبات الحرمان بأن يكون هذا العبد ممن يفدون على باب المحبوب، لأنهم طرقوا أبواب أخرى وسلكوا غير دروب.
ثم يذكر علة أخرى توجب البعد عن الله سبحانه بقول: "اَوْ لَعَلَّكَ فَقَدْتَني مِنْ مَجالِسِ الْعُلَماءِ؛ فَخَذَلْتَني...".
إن من مظاهر ذكر الله وتذكره هو أن يقضي الانسان وقته في مجالسة أهل العلم والفضل، فهذا يربي الانسان على أن يبقي قلبه حيا نيرا بنور العلم واليقظة فلا يتعرض للغفلة عن سيده ومولاه، فانتفاء مجالسة العلماء موجب للتواجد في مجالس أهل الجهل، وهذا هو عين الحرمان والخذلان؛ فيسلب توفيق التزود بالنور الالهي من مجالس أهل العلم، بل ويزداد الانسان تسافلاً وغفلة وجهل.
ومن الأسباب الأخرى بقوله: "اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني فِى الْغافِلينَ؛ فَمِنْ رَحْمَتِكَ آيَسْتَني..".
(اليأس من رحمة الله سبحانه) يا لها من نتيجة عظيمة الخطر، فتعالى نهانا عن اليأس من رحمته، فكم تعبير الامام (عليه السلام) يدق جرس انذار لخطورة أن يرانا تعالى مع أهل الغفلة؟! حتى لا تضعف الروح شيئا فشيئا، فلا ترى أن في صاحبها أمل أن يرجع عما هو عليه لطريق الله تعالى، قلبه يُصاب برين فلا يرى أهل الخير، ولا يجد عنده القدرة بأن يكون فيهم ومنهم.
هكذا فإنه يصاب بحالة مَن تأخذه العزة بالإثم فيرى الحقائق معكوسة، فتارة قد يعتز بمجالسة أهل الغفلة ويراهم هم أهل الخير والصلاح! ويستهجن أن يرى نفسه مع أهل الصلاح، فيموت ضميره فلا يملك فرصة وشجاعة بعد ذلك للعودة.
وتارة أخرى قد يكون يأسه ما هو إلا خوفا من الصد من اتباع الحق أنفسهم -وهذا يحصل بعض الأحيان- فييأس من إمكانية أن يُقبل بينهم من جديد، لكونه نُسب لأهل الغفلة فيما مضى.
ومن الأسباب ما ورد في هذه الفقرة: "اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني آلفَ مَجالِسِ الْبَطّالينَ؛ فَبَيْني وَبَيْنَهُمْ خَلَّيْتَني...".
كما ورد في مضامين الأحاديث إن الذي لا يشغل نفسه ووقته فيما فيه نفع وطاعة يُبتلى بأن تُسلب منه نعمة بركة الوقت والعمر فيرى نفسه بلا هدف بلا جد وجهد وعمل وبالتالي بلا ثمر، من كسل إلى فراغ إلى الانشغال بما لا قيمة له من اللهو واللعب وبالتالي يكون بلا إنجاز، وهذا خذلان ما بعده خذلان!.
فالإنسان الواعي هو من يعرف وجهته وهدفه فلا يجالس أي أحد كان، ولا يضيع أوقاته وسِنِي عمره مع من لا هدف ووجهة له في هذه الحياة.
ومن الأسباب الأخرى قول: "اَوْ لَعَلَّكَ لَمْ تُحِبَّ اَنْ تَسْمَعَ دُعائي؛ فَباعَدْتَني..".
الله تعالى لا يرد دعوة ولا يخيب سائل إلا من أتاه بقلب ساهٍ أي غير متوجه، فصاحب هذا القلب يكون ممن أساء الأدب في حضرة سيده، فتعالى ينبه عباده أن اقصدني بأدب أيها الانسان تنال كل المطالب.
ومن العلل الأخرى: "َوْ لَعَلَّكَ بِجُرْمي وَجَريرَتي؛ كافَيْتَني، اَوْ لَعَلَّكَ بِقِلَّةِ حَيائي مِنْكَ؛ جازَيْتَني...".
إن الله تعالى من صفاته هو الامهال لكن ليس الاهمال، فالتعرف على الله تعالى الرؤوف الرحيم الذي يُمهل عباده فقط، قد يُوجد في نفس الانسان حالة من الاطمئنان الموجب لتجرأ وعدم الحياء، فيرتكب ما فيه غضب مولاه، لذا فعلى الانسان أن يكون ملتفت إلى أن مَن يعصيه كما إنه رحيم غفور فهو شديد وسريع العقاب لمن تجاوز حدود الامهال.
وختاماً لهذه المحطة الامام (عليه السلام) يربينا بقوله: "فَاِنْ عَفَوْتَ يا رَبِّ فَطالما عَفَوْتَ عَنِ الْمُذْنِبينَ قَبْلي، لاِنَّ كَرَمَكَ اَيْ رَبِّ يَجِلُّ عَنْ مُكافاتِ الْمُقَصِّرينَ".
فالإمام يربي الانسان أن لا يستغني عن استشعار كرم الله تعالى معه مع قصوره وتقصيره لكي يعمل عمل الراجين ليكون من المقبولين والمُقبلين فيتقرب تقرب المستشعرين لهيبة ربهم في أنفسهم، والمطمئنين بحنانه ولطفه، وإقباله لمن سار إليه وطرق بابه، ولم يتوجه بقلبه لسواه.
اضافةتعليق
التعليقات