في أرض كربلاء كانت الشمس تلفظ أنفاسها الأخيرة على صحراء الطف القاسية، ولهيب المعركة قد بلغ ذروته.
تقدم بوجس يخطو بنعلهِ ذو الأسوار بان بياض رجليه بدى الغبار يعلوا كأنهُ يستجدي الرُطبةُ منه ، بعينيه الغائرتان من العطش وشفاهه الذابلة وبالرغم من ذلك الحال فقد كان في وجهه إشراقة الفجر، وفي خطواته خفة الورد. كغصنٍ نديّ، لم يُكمل عقده الأول من العمر، ومع ذلك كانت في قسماته نضج الأنبياء، ووقار الرجال العظام، فتىً صغيراً يحمل سيفاً يكاد يثقله، لكنّ قلبه كان أكبر من ألف سيف.
توقف ما بين خيمةِ عمهِ وخيمةِ أمه حين لمح خيال عمهِ يدنو نحوه انكب على يديه ليقبلها بتوسلٍ ورجاء مرددا دعني ابارزهم يا عماه رفض عمهُ البراز تحير الشاب ثم أخرج رقعةٍ كان قد تركها والده له قبل رحيله إلى عالم الآخرة وهي حصن للحفظ وديعةٌ من ابيه الحسن، ثم قرأ الوصية التي تركها وكانت تقول (إذا رأيت عمك وحيدا فبلغه عني السلام ودافع عنه)
احتضنهُ بقوة حتى انكب على رُكبتيه وقد هُدت أركانه وبعد الدمعةِ والأنين قال له الإمام: "كيف ترى الموت يا بُني؟"
فردّ بصوتٍ فيه نَفَسُ العاشقين: "أحلى من العسل."
قال إذن فقد أوصاني أباك بوصيةٍ لابد من تنفيذها
وماهي ياعم
قال: أن أعقد لك على ابنتي
وضع كفهُ بِكفه وقادهُ إلى المخيم ثم دعا بقية أعمامه ليكونوا شهودا على عُرس الدمِ ذاك!
خرج القاسم إلى الميدان كقمر يتهادى في ليلة ظلماء، يقاتل بشجاعة الأسد، ويثبت إقدام الفرسان. كأنما خضب كفه بالحناء ليُزف إلى جنان الخلد، لم تمضِ دقائق حتى اختلط صهيل الخيل بوقع السيوف، كل الحواري كُن يلطمن الرؤوس والصدور لم يُسمع هكذا عرس في التأريخ فالجنان تبكي والسماء نثرت نثارها وما نثارها إلا الدم.
ففي أعراس الناس يُخصص مقعد للعريسين والزينة تعلوا المكان والزغاريد والوليمة والثياب الجديدة أما هذا العرس فالغرفة خيمةٌ يسقط عمودها بعد لحظات والشراب هو المقتل أما السرير فأجساد القتلى حناءه دمه وحناء العروس دموعها في المخيم.
كل الغلمان يلبّسون بُردًا أبيض ليلة عرسهم، أما هو فقد كُسيت ضلوعه برماح القوم، ولُفّت روحه برداء السماء. سقط وهو يئن، وعيونه تبحث عن كفٍّ تمسح الغبار عن جبينه، فلم يكن إلا الحسين، عمّه، الذي ركض إليه يتعثر بخطاه، يصرخ: "بُنيّ... قاسم... عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا ينفعك، حمل العم العريس على صدره ليأخذه لغرفة الزينة وضعه على أجساد الشهداء وهو يبكيه بلوعة.
العروس على صدر عمتها تنوح فقد هوى عريسها على الأرض، بعد دقائقٍ معدودوة اكتملت المذابح ورضت الصدور وفي طرف الخيمة نارٌ عَلت بدل الشموع وبدل الدفوف تعالى العويلُ والزغاريده كانت أنينَ النساء ونياحَ الثكالى.
زفافهُ إلى الموت أما زفافها فقد كان في اليوم الحادي عشر زفت إلى جسد والدها المضمخ بالدماء المرضوض على رمال الصحراء لا تسمع سوى عويلٌ وبكاء واخذت مسبية من أرض كربلاء تحت رعاية الأعداء.
في عاشوراء... لم تكن كربلاء ساحة حربٍ فحسب، بل كانت مشهداً أسطورياً لمعانٍ لا تحملها إلا الأرواح العارفة بالله. هناك، كُتبت قصيدة الدم بالدم، وارتفع على أرضها عرش الشهادة.
كربلاء... لم تكن قتلًا فقط، بل كانت أعراسًا من نوعٍ آخر، فيها يُزفّ القمر إلى محراب الخلود، وكان القاسم بن الحسن، عريسَ الدم، وملاك العزّ في زمان الذبح.
تروي للأجيال قصة هذا الشاب الذي آثر الشهادة على متاع الدنيا، وضحّى بمهجته فداءً لأجل إعلاء كلمة الحق.
اضافةتعليق
التعليقات