في عالمنا المعاصر تبرز بعض الدول كنماذج حية على كيفية ترجمة الطموحات إلى إنجازات مبهرة، ولكن يبقى السؤال الأهم: هل يكفي البناء المادي لتحقيق الأمان الحقيقي؟
لنأخذ الصين نموذجًا؛ حيث يمتد سور الصين العظيم ملتويًا كأفعى حجرية لمسافة تزيد على 21 ألف كيلومتر شمال البلاد، وقد اختير كإحدى عجائب الدنيا السبع الجديدة عام 2007. أنشأه الصينيون القدامى حين أرادوا أن يعيشوا في سلام واستقرار، وظنوا أن ارتفاعه الشاهق يحميهم من الغزوات.
لكن المفاجأة خلال أول مئة سنة من بنائه، تعرّضت الصين للغزو ثلاث مرات، ولم يُكسر السور في أي منها، بل كانت كل مرة تبدأ برشوة حارس الباب، فيُفتح الحصن من الداخل.
هذه الحادثة تختزل رسالة عظيمة: لا يكفي أن نبني الأسوار عالية، إن لم نحصّن النفوس من الداخل، فالأمان الحقيقي لا يُبنى بالحجارة بل يُبنى بالقيم والنزاهة والوعي والتربية الأصيلة التي تمنع انحدار الأرواح نحو الخيانة.
سنغافورة: حين تحوّلت دمعة إلى نهضة
كان رئيس سنغافورة ذات يوم يقف أمام شعبه والدمعة في عينيه، ليس لأنه خسر حربًا، ولا لأن بلده اجتاحته كارثة، بل لأنه كان رئيسًا لبلد لا يملك حتى مياهًا صالحة للشرب.
سنغافورة، هذه الدولة التي لا تتجاوز مساحتها 710 كيلومترات مربعة، ويقطنها نحو ستة ملايين نسمة فقط، خرجت من الاتحاد الفيدرالي الماليزي عام 1963 دون أن ترث أيّ مورد طبيعي يمدّها بالأمل. كانت تعاني من فقر مدقع وغياب كامل للبنية التحتية، والبطالة تنهش أحلام المواطنين.
لكنّ القيادة هناك نظرت إلى ما تمتلكه لا إلى ما تفتقر إليه، رأت أن أغلى ما لديها هو الإنسان.
فبدأت بخطة منهجية متدرّجة لبناء الإنسان قبل العمران، وفجّرت طاقات الشعب في ميادين العلم والعمل والانضباط، حتى صارت سنغافورة اليوم رائدةً عالميًا في التكنولوجيا الحيوية والسياحة والنقل وتجاوزت اليابان في مستوى دخل الفرد، وأصبحت من أقل دول العالم فسادًا وأكثرها كفاءة.
هنا يبرز السؤال الجوهري: ما الذي يجعل أمة تنهض من العدم، بينما أخرى تمتلك تاريخًا وثروات ولكنها لا تبرح مكانها؟
الفرق بينهما جوهري لا ظاهري فالأول اعتمد على القوة الصامتة للبناء، فانهار أمام خلل داخلي والثاني اعتمد على القوة الصامتة للضمير، فارتقى في صمت إلى قمة الأمم.
إنه الاستثمار في الإنسان، في نزاهته ووعيه، في تعليمه وتربيته، في بناء منظومة قيم راسخة لا تهتز مع العواصف.
الاستثمار في الإنسان: بوابة الحضارة الحقيقية
الاستثمار في جوهره هو تخصيص الموارد لاقتناء أصول ذات قيمة يُتوقع أن ترتفع قيمتها بمرور الوقت، كأن يشتري المستثمر عقارًا، أو عملة رقمية مثل "البتكوين"، أملاً في أن تُدر عليه أرباحًا مستقبلية.
لكن هناك نوعًا أسمى من الاستثمار لا يُقاس بالذهب ولا يرتبط بتقلبات السوق: إنه الاستثمار في الإنسان وهو أفضل مجالات الاستثمار.
ويُقصد به كل ما يُنفق على تحسين قدرات أفراد المجتمع وتمكينهم من العمل والعطاء، مثل الإنفاق على التعليم والصحة والتأهيل المهني وصقل المهارات الفكرية والنفسية. إنه بناء الإنسان من الداخل، وتحويله إلى ركيزة حضارية قادرة على الإنتاج، والإبداع، والتغيير.
فالاستثمار في العقل البشري يجنِى من وراء ذلك كلّ نجاح وكل رفعة وكل نهضة لا تنطفئ.
الإنسان... جوهر التنمية وغاية التكريم
إن رأس المال البشري لا يُعدّ مجرد عنصر في معادلة التنمية، بل هو الركيزة الأساسية التي تنهض بها الأمم وترتقي بها المجتمعات.
الإنسان هو أثمن ما خلق الله تعالى على هذه الأرض خليفته فيها والمؤتمن على إعمارها. لقد كرّمه المولى جلّ وعلا، حيث قال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء 70) ومنحه العقل، والإرادة، والقدرة على التعلم والتغيير.
ورغم هذا التكريم الإلهي، نجد أن كرامة الإنسان تُهان في الدول التي تئن من الصراعات السياسية أو الطائفية أو العرقية، فتتحول النعمة إلى نقمة، وتنطفئ فيها قيمة الإنسان حين يُغفل عن جوهره، وتُهمّش طاقاته، ويُقصى عن المشاركة الفاعلة في صناعة الحياة.
إن الاستثمار الحقيقي لا يبدأ في البنوك، بل في العقول، ولا يُقاس بعدد الأبراج، بل بسمو الإنسان.
وحين تُصان كرامة الإنسان، ويُقدَّم التعليم والصحة والأمن والوعي، فإن الأرض تنطق نماءً، والمجتمع ينهض بذاته.
الرسول (صلى الله عليه وآله) لعلي: وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت. (الكافي - الشيخ الكليني - ج ٥ - الصفحة ٢٨)
هذه بعض الأمثلة تجسّد المعنى الحقيقي لـ "الاستثمار في الإنسان"، حيث تتحول الجهود الصغيرة إلى نتائج عظيمة تُسهم في بناء أمة راسخة الفكر، نقية الأخلاق، ومتقدمة في ميادين الحياة كافة:
الطالب في المدرسة: غرس الحصاد المستقبلي
حينما توجّه المدرسة جهودها نحو تعليم الطالب وتربيته، فهي لا تمنحه المعرفة فحسب، بل تؤسس لبناء إنسان قادر على التفكير والنقد والإبداع. كل درس يُقدّم له وكل قيمة تُغرس فيه هو استثمار طويل الأمد يؤتي ثماره في المجتمع على شكل مواطن صالح ومبادر فاعل وقائد يحمل الوعي.
المدير في المؤسسة أو الهيئة: صناعة العقل الجماعي
المدير الذي يُنمي أفراد مجموعته بالفكر والثقافة والعقيدة يسهم في تشكيل نسيج متماسك يحمل رؤية مشتركة، ويولد طاقات خلاّقة تسهم في تطور المؤسسة فكريًا واجتماعيًا وحتى اقتصاديًا. القيادة الحكيمة لا تصنع الإنجازات وحدها بل تزرعها في النفوس وتُنمّيها في العقول.
الوالدان في التربية: بناء أجيال حاملة للرسالة
الأبوان اللذان يربّيان أبناءهم على الاستقامة والصلاح لا يكتفيان بصناعة فرد صالح فحسب، بل يبنيان امتدادًا روحيًا وقيَميًّا يتجاوز زمانهم، كل قيمة تُعلَّم كل خلق يُرسَّخ، هو بذرة استثمار في إنسان سيحمل رسالة الخير، ويُسهم في صلاح العالم من بعدهم.
المدينة بعد الطف... أمة تئن من اليأس
عاد الإمام السجاد (عليه السلام) إلى مدينة جدّه وهو مثقل بالجراح التي لا تُرى، جراح الروح، والألم العميق الذي يتجاوز حدود الجسد.
كانت المدينة، ومَن فيها في حال من الخوف والترقّب واليأس، بعدما رأوا الحسين بن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يُقتل بهذه الوحشية، ويُساق أهله في موكب السبي من بلد إلى بلد، في مشهد خنق النخوة وخلخل الإيمان في القلوب.
لقد كان الإسلام برمّته يواجه لحظة حرجة؛ لحظة يأسٍ وقنوطٍ لم يعرفها المسلمون من قبل حتى عبيد الله بن سليمان وصف تلك الفاجعة قائلاً: قتل الحسين (عليه السلام) كان أعظم بلاء نزل بالمسلمين، فقد يئسوا من كل فرجٍ وعدلٍ بعده.
أما بالنسبة للإمامة وأهل البيت والإمام (عليه السلام) فقد تفرّق الناس عنهم وتنكّروا لوجودهم، حتى أن الإمام الصادق (عليه السلام) عبّر عن ذلك بقوله المؤلم: ارتد الناس بعد الحسين (عليه السلام) إلا ثلاثة: أبو خالد الكابلي ويحيى بن أم الطويل وجبير بن مطعم. (الكافي - الشيخ الكليني - ج ٢ - الصفحة ٣٨٠) وهم ثلة قليلة من المؤمنين.
وكان سبب هذا الارتداد واليأس أن الناس رأوا القائد يُذبح والأهل يُشردون، والحق يبدو ضعيفًا بلا أنصار مما أرعب النفوس، وأضعف العزائم وخلخل الإيمان في أعماق المجتمع.
لكن رغم هذا الواقع المؤلم بدأت من تحت الرماد حركة وعي جديدة، كان يحملها الإمام زين العابدين (عليه السلام) بصبره وخطابه ودعائه وإيمانه الثابت ليعيد توجيه الأمة نحو حقيقة الإسلام ويوقظ فيها الضمير الذي كاد أن يموت.
الاستثمار في الإنسان: الإمام السجاد عليه السلام نموذجًا حيًّا
النموذج الأول: ابان بن تغلب
حين نتحدث عن الاستثمار في الإنسان، فإن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقف شامخًا كنموذج فريد لهذا النهج التربوي العظيم، إذ لم يضعف أمام عواصف الكرب والخذلان، بل جعل من المحنة منطلقًا لبناء الإنسان، وغرس القيم في أجيال تحمل علوم أهل البيت وتفوح بعطرهم، وكان من أبرزهم: أبان بن تغلب.
رغم شدة الضغوط التي كانت تعصف بالمدينة، والتي كان يغلب عليها طابع العداء لأهل البيت، استطاع الإمام (عليه السلام) أن يُنشئ شخصية علمية عظيمة، ترعب خصوم المعرفة وتحفز طلاب الحقيقة.
فأبان بن تغلب العالم القرآني والمحدث والفقهي واللغوي أصبح علَمًا يُشار إليه بالبنان حتى إذا دخل المدينة تقوّضت الحلقات العلمية إليه، وتوجه الناس نحوه رغم ما كانت تحمله المدينة من نزعات مضادة لنهج أهل البيت.
وهذا يُثبت أن الإمام (عليه السلام) لم يكن يبحث عن الشهرة أو السلطة، بل عن صناعة إنسان يحمل الرسالة ويدافع عنها بالعلم والبصيرة. ولهذا قال له الإمام الباقر (عليه السلام): أُجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإنّي أحبّ أن يُرى في شيعتي رجلٌ مثلُك.
ولم يكن أبان بن تغلب مجرد راوي حديث بل كان صاحب رأي وحكمة يقرأ القرآن بأجود قراءة ويناظر بالحجة ويحاور بالمنطق حتى اختاره الإمام الصادق (عليه السلام) لمناظرة أحد المدّعين.
حتى الذهبي رغم عداءه، قال عنه (شيعي جلد، لكنه صدوق)، وهذا بحد ذاته شهادة على صدقه وأمانته العلمية التي لم يستطع الآخرون إنكارها.
إن تربية شخصية كهذه في ظرف استثنائي تُعدّ من أرقى صور الاستثمار في الإنسان، وأن تخريج العلماء هو طريق التغيير لا الانقلاب، وأن النهضة الحقيقية لا تحتاج مؤسسات ضخمة بقدر حاجتها إلى قلوب تتقد بالإيمان وعقول تنبض بالفهم والوعي.
النموذج الثاني: سعيد بن جبير
في مدرسة الإمام زين العابدين (عليه السلام) لم يكن الاستثمار في الإنسان مجرد شعار، بل كان مشروعًا تربويًا واقعيًا، يزرع الإيمان ويصنع العقول. ومن أبرز ثمار هذا المشروع سعيد بن جبير الذي ارتقى في مدارج العلم والخشوع حتى صار منارة لا تُطفأ.
ولد سعيد بين عامي 38 و46 هـ من أصل حبشي، وكان من موالي بني أسد، لكن نسبه لم يكن حاجزًا أمام نبوغه، فقد تربّى في أحضان الولاء لأهل البيت، ونهل من علم الإمام السجاد (عليه السلام) حتى فاق أهل زمانه. وكان عبد الله بن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه، يقول: (أليس فيكم سعيد بن جبير).
لقد تخرج سعيد من مدرسة الإمام السجاد لا بشهادة ورقية، بل بختمٍ من نور العلم والتقوى، قال عنه الذهبي رغم عداءه: (كان أحد الأئمة الأعلام).
وكان يختم القرآن في كل ليلة، حتى قيل إنه قرأه في ركعة واحدة داخل الكعبة، وكان يختمه بين المغرب والعشاء، وتجلّت الخشية في قلبه حين قال: الخشية أن تخشى الله حتى تحول خشيتك بينك وبين معصيتك، فتلك الخشية. (سير أعلام النبلاء - الذهبي - ج ٤ - الصفحة ٣٢٦)
بل بلغت منزلته أن عبد الملك بن مروان طلب منه تفسير القرآن، فكتب له سعيد تفسيرًا أصبح في نظر البعض أول تفسير مكتوب لكتاب الله.
كانت آخر كلمة نطق بها قبل قتله أنّه دعا على الحجاج: (اللهم لا تُسلّطه على أحد يقتله بعدي).
فما عاش الحجاج بعدها إلا أيامًا معدودات يردد في سكراته: ما لي ولسعيد؟
لقد بلغ سعيد بن جبير مرتبة علمية سامقة، لا باعتراف محبيه فحسب، بل حتى خصومه والمخالفين لمكانته وولائه.
يروي سفيان الثوري عن عمرو بن ميمون عن أبيه قوله: (لقد مات سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه، وهذه شهادة على مدى عمق تأثيره العلمي في الأمة). (البداية والنهاية - ج ٩ - الصفحة ١١٦)
أما هو فكان يحمل همّ العلم رسالة لا ملكًا خاصًا، فقال: (إن مما يهمّني ما عندي من العلم، وددت أن الناس أخذوه). (المصدر السابق)
وهنا تتجلى روح الإيثار العلمي ونقاء النفس الرسالية التي تربّت في مدرسة الإمام زين العابدين (عليه السلام).
بل بلغ من الفقه والدراية ما جعله يُسمى في زمانه "جهبذ العلماء"، وهو لقب لا يُمنح إلا لمن بلغ الغاية في النقد العلمي والبصيرة الفقهية، فالجِهْبِذُ هو الناقد الخبير، الذي لا تشتبه عليه المسائل، ولا تغيب عنه دقائق الأحكام.
هذا هو الاستثمار في الإنسان الذي قام به الإمام السجاد (عليه السلام) مشروعٌ يعيد بثّ الحياة في الإسلام، ويصنع أصواتًا نقية تردد في كل عصر: قال السجاد وقال الباقر وقال الصادق، ويجعل الأحكام خالدة لأن من ينقلها لا ينقل كلامًا فقط، بل يحمل نفسًا مطهّرة تبث في النص روحًا لا تموت.
اضافةتعليق
التعليقات