كثيرة هي المصاعب والتحديات التي تواجه الانسان في مسيرة حياته، ولعل من أصعبها مواجهة مجتمع يختلف في مبادئه واعتقاده عن مجتمع عاش فيه فترة طويلة من الوقت، فهنا، يصعب التأقلم والموازنة، اضافة عن اختلاف اللغات والعادات، في المأكل والمشرب واللباس وقضاء الوقت وغيرها، مما اعتادت عليه الشعوب المختلفة.
ولعل ذلك الانسان كان طوال حياته في مواجهة ما نتيجة جهل، أو اعتلال صحة، أو بيان موقف.
مما يسبب له مآزق في كل الأحوال، فكيف يمكن تدارك أخطاء ماضٍ بصحة عليلة، واختلاف بيئة في جوها الاجتماعي، والمناخي، والاقتصادي، واللغوي.
ناهيك عن اطلاق أحكام عليه من قبل أفراد مجتمعه الجديد، وتمسك مجتمعه القديم بشخصه ومعتقداته السابقة كفرد من أفراده، فإذا ما تبدل فهو الخاسر الأكبر في كلتا الحالتين، فلا مجتمعه القديم يتقبله، ولا مجتمعه الجديد يعتبره أصيلا في انتمائه إليه.
فمشكلة النزوح والهجرة والتهجير، من المشكلات التي عرفتها البشرية منذ الأزل، فعرفها الانسان العربي قبل غيره، فكان ينتقل من مكان لآخر، طلبا للماء والكلأ، فإذا ترك المكان بأجساد سكنت صعيده، حن إليه، ولعله يحن إليه وإن كان خاليا، وقد ظهر هذا الحنين في أشعار عرب الجاهلية، كما ظهر في أشعار المسلمين في عصورهم المختلفة، فهو حنين الذات لمنبعها الأول، وموطن نشأتها، ومراتع الطفولة، ومرابع الشباب، هو حنين للأهل الذين لا تربطهم رابطة الدم أو الرحم، بقدر ما تربطهم الألفة والمودة الخالصة التي لاتشوبها الأحقاد أو الضغينة او المنافسة في المكاسب، عاجلها وفانيها.
هو حنين للشجر، والماء، والغيم، والنسائم الباردة يقول أحد الشعراء في ذلك:
القلب عندي غير أن الروح عندكم
فالروح في غربة والقلب في وطن.
والانسان العربي تغيرت طباعه ولغته، باختلاف مكان سكناه، فكان الانسان القروي، والريفي، والحضري، والمدني، وعلى كل حال لا يمكن أن يؤطر خليفة الله سبحانه باطار لغوي أو تصنيف اجتماعي أو انساني، فهو الكائن المعجزة الذي يختلف عن كل الكائنات الحية الأخرى.
ولعل المحزن أن يناضل المرء في حياته في سبيل مجتمعه، واثبات وجوده وكيانه، ونشر ما يؤمن به، ليأتي في آخر المطاف محملا بأعباء جهاده، يراه هباء في أعين الناس، الذين بذل لأجلهم سنوات عمره وكفاحه، معللين "من أجل اثبات وجود وكيان".
ليست كل الكلمات قادرة عن التعبير عما يريد المرء إيصاله للآخرين، فقد تعجز اللغة كما يعجز اللسان والبيان، ويبقى الفرقان الذي خطه الوحي الكريم على رسوله العظيم، أعظم كتاب، بلغته العربية، التي هي لغة أهل الجنة، والتي يقصر عنها حتى المتخصصون بها، فيلجأون إلى لغات أخرى للتعبير عن أحوالهم، لقوتها وبلاغتها ومتانتها، التي لا يستطيعون الاحاطة بها، وقد تتأرجح مقدراتهم في استيعابها بعد هجرتهم من مكان لآخر، او تقادم الزمان، أو انخفاض في الاجتهاد والسعي، أو نتيجة علة أو مرض عارض.
ويبقى الغريب أسير غربته أينما كان، فقد يغترب عن أهله ودياره، وهو بين ظهرانيهم.
إذ يشتاق إليهم في أحوالهم الماضية، وحاله القديم معهم، وقد يشعر بالغربة عن خالقه ومحبوبه الذي هو أحق بحبه من أي محبوب، لشدة ما يلقاه من ظروف قاهرة خارجة عن ارادته، تدفعه عن التخلي عما اعتاده من العبادة، والزهد والتقرب إليه بالقول الصادق وأداء الأمانة، فيغترب عن ذاته وفي ملاطفة عرفانية يقول أحدهم:
لي في محبتك شهود أربع
وشهود كل قضية اثنان
خفقان قلبي واضطراب جوارحي.
واصفرار لوني وانعقاد لساني
ولعل في أئمتنا عليهم السلام قدوة للمغتربين ولا سيما أبي عبد الله الحسين عليه السلام غريب الغسل والكفن، وغريب الغرباء الامام الرضا الذي بعُد قبره في بقعة مَن زارها كان ما كان له من الأجر والمثوبة استحقاقا من الله عزوجل، وجميعهم عليهم السلام كانوا يعيشون الغربة من قلة الناصر والأصحاب، ونفوذ الظلمة وأعوانهم على العدوان.
ويبقى وجه الله ذو الجلال والاكرام، ملاذ الغرباء وكهفهم، ومؤنسهم الذي يلجأون إليه بالدعاء وقراءة القرآن أو مجالس الذكر والصلوات وإحياء الأمر فتتألق تلك الأرواح التي تعيش الغربة بنوره سبحانه ويسكن وجعها وتصفوا أوقاتها.
اضافةتعليق
التعليقات