في ليلة كستها الأنوار، وغمرتها البركات، كانت السيدة فاطمة بنت أسد (عليها السلام) شاهدة على ولادة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان المشهد مهيبا وإعجازيا كما تذكر الروايات حيث فُتحت نوافذ الغيب أمام عيني السيدة آمنة (عليها السلام)؛ فرأت بياض فارس وقصور الشام، أسرعت السيدة فاطمة إلى سيد البطحاء أبي طالب (عليه السلام) ضاحكة تبشّره بالوليد المبارك وتخبره بما رأته السيدة آمنة، فقال لها: وتتعجبين من هذا؟ إنك تحبلين، وتلدين بوصيّه ووزيره!.
في رواية أخرى إنه قال لها: "اصبري سبتا أبشّرك بمثله إلا النبوة".
والسبت ثلاثون سنة، فكانت الفترة الزمنية الفاصلة بين مولد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومولد الإمام علي (عليه السلام) ثلاثين سنة .
نبوءة صادقة لا تصدر إلا من وليّ وحجة لله قد استودعه الله على أسرار الغيب.
وها هو اليوم الموعود يطرق أبواب الزمن، ويقترب أوان تحقق البشارة الثانية، لتكون حادثة مولد الإمام علي معجزة فريدة لم ولن تتكرر على مرّ التاريخ البشري؛ فولادته كانت في بيت الله، وفي جوف كعبته المشرّفة هذه المنقبة التي اختصّ بها الإمام علي (عليه السلام) دون غيره من البشر رغم تشكيك المبغضين، وانكار الحاقدين !
لنستمع إلى الرواية من شاهدِ عيان يُدعى يزيد بن قعنب، صادف تواجده مع مجموعة من سادات مكة في الساعة التي دخلت السيدة الجليلة سليلة المجد والمكرمات إلى فِناء الكعبة تجرّ أذيالها وقد أثقلها الحمل، جاءت تدعو الإله الذي توحّده ليسهّل ولادتها، أسندت رأسها بإعياء إلى جدار الكعبة وشرعت في الدعاء والمناجاة:
"ربّ إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإني مصدّقة بكلام جدي إبراهيم الخليل، وإنه بنى البيت العتيق، فبحق الذي بنى هذا البيت وبحق المولود الذي في بطني لما يسّرت علي ولادتي".
يقول شاهد العيان: "فرأينا البيت وقد انفتح عن ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا، والتزق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أن ذلك أمر من أمر الله عزّ وجل ".
لقد استحلفت الله بالجنين الذي تحمله؛ مما يدل على علمها بوجاهته عند الله، وهنا تتزاحم في الذهن عشرات الأسئلة، كيف لم تفزع السيدة فاطمة وهي ترى جدار البيت يتمزّق أمام ناظريها، أي إلهام دفعها للولوج إلى داخل الكعبة من خلال ذلك الشقّ؟ أي سكينة نزلت في قلبها، وأي اطمئنان سكن فؤادها؟
كيف لم يدهشها ذلك المشهد الغريب وهي في ساعة المخاض حيث تكون المرأة عادة في أقسى حالات الضعف والقلق، أي دعوة ملكوتية استجابت لها بكل ذلك التسليم والانقياد التام؟
وعندما احتضنتها الكعبة من الذي أعانها في ساعات المخاض العسيرة، هل هبطت عليها الحور من السماء وجلست بين يديها لخدمتها، أم وليت أمرها نساء الجنة كما حدث في ولادة الزهراء (عليها السلام)؟ وتبقى هذه الأسئلة معلّقة في فضاء الحدث لا تزيدنا مع الأيام إلا دهشة وإجلالا .
وبعد أن قضت ثلاثة أيام في ضيافة ربانيّة خُصّت بها دون سواها، خرجت مزهوة بوليد يزهر كالشمس وهي تعلن للملأ ماحباها الله من كرامة، وما خصّ به وليدها من مستقبل مشرق: "إنّي فُضِلتُ على من تقدّمني من النساء لأن آسية بنت مزاحم عبدت الله عزّ وجلّ سرّا في موضع لا يُحب أن يُعبد الله فيه إلا اضطرارا، وإن مريم بنت عمران هزّت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطبا جنيا، وإني دخلتُ بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنة وأرواقها، فلما أردتُ أن أخرج هتف بي هاتف، يا فاطمة سميّه عليا فهو عليّ، والله العليّ الأعلى يقول: إني شققتُ اسمه من اسمي، وأدّبته بأدبي، ووقّفته على غامض علمي، وهو الذي يكسّر الأصنام في بيتي، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي، ويقدّسني ويمجدّني، فطوبى لمن أحبه وأطاعه، وويل لمن أبغضه وعصاه" .
ومن حجرها إلى حضن الحبيب المصطفى تبدأ رحلة عشق وإخاء، ومسيرة ستغيّر وجه الأحداث ومصير البشرية، لقد شغف به النبي حبا؛ فكان يطعمه، ويهزّ مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويحمله على صدره ويقول: "هذا أخي وولييّ وناصري وصفييّ وذخري وكهفي وظهري وظهيري، ووصيي، وزوج كريمتي، وأميني على وصيتي، وخليفتي" .
واعتاد أهل مكة على رؤيته وهو يحمله، ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها.
فكما شاءت حكمة الله تعالى أن ينشأ محمد (صلى الله عليه وآله) في بيت أبي طالب ليكون ذلك جزء من إعداده للنبوة، شاءت حكمته أن ينشأ عليّ في بيت محمد (صلى الله عليه وآله) وفي أحضان رعايته ليكون ذلك جزء من إعداده للإمامة والوصاية! .
بشارتان .. وولادتان لوليين اصطفاهما الله من أرفع البيوت، وأعرق الأنساب ليكونا حججا له على عباده، ومنارا لصراط توحيده ..
اضافةتعليق
التعليقات