لا يحسبن الفاعل أمرا، إن التأريخ خطيئة يواكبها، فيجثوا على ركاب أزمته، دونما رسالة تدرس ودلائل ترتجى عند الإمتحان..
لأن القابض على شعار المبدأ، لا يعترف إلا بحقيقة الهدف والغاية من وجوده، حتى وإن تطلب منه ذلك قطع وتينه.
الأزمة تحديدا تخلق مواقف، وتصنع الاقتدار، وتجعل من قطرة تصدي، إلى بحرا هائجا، يهتف إعصارا مدافعا عن حقه أمام زخم التداخلات العاثرة.
لذا نراه يقبل بالمفاجأة ، وتذوب سدود التردد لديه فكره غير مشذب، ينطق سلاحا، ويبارك حرفا، في فطرة الوجود، تسترزق الموائد من وعي ضميرها خبزا لتقضي شطرا من حياتها دون وجع. ف تعالج فراغها ثوابت.
الإمام علي وعطش التراث
لا ينبري التراث إلا منبرا من شواهد الذاكرة المتدثرة بقوافل التكهنات والحقائق الشاهقة المهمة وعين الانتظار تترقب حضور وفد الخطاب من صحيفة الإمامة لتأكيد هتاف الولاية.
عند تخوم الأجيال، هناك فارقة، انكفاء القلم ودليله على البديهة، فيشكو العقل تحجرا طالبا صحوة من أصحاب حصيفة تزيده دقة في التعبير وشمولية في الكلمة..
يصيبها العجز، لابتعادها قطب الإمامة وتقوى الكتاب، تصاب بالعطش الشديد، لعل رمق من كوثر الولاية ينجيها وأمل متبعض القوة يبني لها حضارة.
نعم، أفواج من شكوك الفكر، ومطبات جملة التحديث تعترض مسارها، فيعتريها الضعف والوهن وقلة زاد المسير.
(كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وماكان عطاء ربك محظورا) *
بعض مقومات التقدم، تحتاج إلى سيولة الفكر الأصب وحديث الصدق، لتقف على قدميها دون إعياء أو ذهول، فلولا إرشادات النور وقطب الولاية في علي عليه السلام وأهل بيته، وبواعث الخيرين في العطاء المستمر، ماكان للعلم قائمة وسداد، لأن المعرفة الحقة كفيلة لانتياش الأمة من حضن التدهور، إلى تراث متكامل النهضة، يمحق صفحات التشدد القائم ويهبها إشراقة من نور، ويرمق عطش تربتها بوفرة ريانة من ماء معين بيت الولاية، باب علي بن أبي طالب عليه صلوات الله.
( والذين يؤتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون)*
يكفي أنها نالت وسام الدعم والتقدير من رسول الرحمة، ومن عمدة العرش الإلهي في تأويل قوله تعالى: (وتعيها اذن واعية)، (هي اذنك ياعلي) ***
الإمام علي.. وظلم التأريخ
في طي التأريخ، مواقف جارحة ، تبنت غياب الأدب ، ووضياع الأمن في حصاد نهجها..
تخطت وهما ضليلا، فتقمصت جلبابا يناسب فكرها، طغيانا وظلما، لا تهاب العلم والحديث، ولا منطق التنزيل، تجول بسيفها أعناق الصدق والمبدأ لتحوز كرسيها المرصع بالذل والجبروت، (فذرهم في غمرتهم حتى حين) *
هم في فجوة التغابي والتباهي، إلا أن يد الله فوق أيديهم، والظلم لا يدوم، والظالم محاق، عمره قصير، وفعله حقير، وإن القوة لأهل طاعة الله ورعايته.
عن الصدوق، عن ابن المتوكل، عن الحميري، عن الفضل بن عامر، عن موسى بن القاسم البجلي، عن ذريح المحاربي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ثلاثة إن لم تظلمهم ظلموك: السفلة وزوجتك وخادمك.**
أنهم هم المستهزؤون، ارتضوا لأنفسهم جبهة الحرب مع كلمة الله، لفلق هامة الحق والعبادة ووحدانية الكون والوجود، وما كانت دماءه الطاهرة الزكية إلا شاهدة على سيفهم المنفلق غدرا.
الإمام علي عليه السلام، يشهد له المنطق وكل النور، ويبصم له حديث الله بحقه، وجمال أخلاقه وثبات ولايته، وشجاعة مواقفه إزاء بيت النبوة وتحديات سيفه القاطع يد الشرك.. هو صالح بعد صالح، في تأويل قوله تعالى:
(وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين).
عن النبي صل الله عليه وآله، يقول: (وصالح المؤمنين، علي بن ابي طالب عليه السلام).***
هو صلح قاهر للنفس، أن تطيع الولاية بكل مقصد، فتغاضت نفسه زهدا وكرما منه وسخاء، فأعطت كفه العقيق مايملك خنصرا بلون الخاتم لفقير الطلب، أن جاءه الأعمى، في سورة عبس التنزيل.
اي فداء هذا الذي أقرته الجوارح ، تجليا لأمر الله سبحانه..
عن الرضي رفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) انه قال في الخطبة الشقشقية:..
(أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز) **
وأي ظلم، عاشه قلم الحقيقة، لعنق السخاء، هل يستوجب من التأريخ، أن ينسى فضائله أو يغض الطرف عن تضحياته وموالاته لعمود النبوة.
(أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) *
ينعكس الاجلال في ذاته، حين تغص اللقمة من فمه الشريف العفيف، لإشباع ذوي الفكر الجائع للحقيقة.
(أولم يكف بربك أنه على كل شىء شهيد)*
نعم شاهدة على من أقصى حقه وغصبه، وأخفق في طاعة الولاية وبيت النبوة.
وعنه عليه صلوات الله يقول:
(مالقي أحد من الناس مالقيت، مازلت منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، مظلوما..)***
وعنه أيضا:
(مازلت مظلوما، منذ ولدتني أمي، حتى أن عقيل ليصيبه رمد فيقول: لا تذروني حتى تذروا عليا، فيذروني ومابي من رمد).****
ونقول: في عنق الحقيقة، يبقى علي بن ابي طالب، ذلك الجرح النازف النابض الحي الذي تخضبت من دمه الثائر الأمم على مر التأريخ، هو حياة لكل المناهج يخط لنا نهجا يافعا تتعلم منه الأجيال تلو الأخرى، وتدرك أن لا حياة دون ولايته والتبري من أعدائه، وقد أفلح المؤمنون الذين هم في حبه ذائبون، وللدين بمثابة الرأس من الجسد، هو الإيمان كله، هو قطب ليلة القدر.
اضافةتعليق
التعليقات