للأيام أدواتها الحادة التي تجرح بها أولئك الذين يسلمون أنفسهم تحت مقصلتها، وأما من يحاربها فإنها تلتذ لتزيده ثم تصبح طيعة له إكراما لفوزه على عقباتها، وقد يؤجل ذلك إلى وقتٍ معلوم.
لا أظن هناك من لا يرغب في الجلوس قرب النافذة في السيارة صغارا ترتسم الابتسامة على وجوههم وهم ينظرون إلى مختلف المناظر أما الكبار فتكون تلك اللحظات محطة تأمل تستتبعها حسرة أو ابتسامة مُرة أو ضحكة خجلى لقلب واله، ابتسمتْ عندما رأت سيارة مزينة لعروس بين كثافة تلك الأشجار تتجه نحو المزارع في الطريق، عادتْ بها الذكرى لذلك اليوم الذي حملوها من المدينة إلى الريف عروسا، لم تألف حياة ذلك العالم، ثم ما لبثتْ أن أصبحتْ كنة نشيطة، تحلب الأبقار وتحصد الزرع، وتحمل الماء من الجدول لمنزلها الذي لا يعدو عن كونه هيكلا، وتربي سبعة أبناء، خمسة من البنين وبنتين.
إلا إن ذلك كان قليلا تعبه مقارنة مع خيانات زوجها المتكررة، حتى استقر أخيرا على امرأة عاقر متزوجة سابقا من ثلاثة رجال، وهو رابعا مع شرطها بأن يُطلق زوجته وتأخذ هي الأولاد، فانصاع إليها فأخذ ولدين أحدهما لم يكمل سنينه الثلاث وأخيه ابن الأشهر، لم تكن تلك الصدمة الأقوى بل ما حدث بعدها بأربعة أيام، حيث اتصالا هاتفيا يخبرها بأن تأتي لتستلم جثة ابنها ابن الثانية عشر بعد تعرضه لصعقة كهربائية، لم تُكمل عزاءها حتى حاربتْ من أجل الحصول على أبنائها خوفا من فقدانهم واحداً تلو الآخر..
عملتْ من بيت إلى آخر لإعالتهم، ومن أجل تمكين نفسها لتغادر بيت أهلها بعد أن وضعتْ زوجة أخيها شرط خروجها لعودتها إلى منزل العائلة، فنزلتْ بالقرب منهم، وهي تعمل ليلا ونهارا في خدمة المنازل لتوفر لهم ما يحتاجونه، وقبل أن يتشبع أنفها من رائحتهم، وأصواتهم التي أدفئتْ حياتها حتى كسرتْ تلك السعادة دعوة بعدم رعايتهم بصورة صحيحة فأخذهم أبوهم لزوجته مرة أخرى، لتبقى من جديد وحيدة مع ولديها، تحتضنهم بقوة، تتزود منهم خوفا من أن تصحو صباحا على فقدهم.
استطاعتْ من عملها أن تحصل على قطعة أرض، وراحتْ تجتهد في العمل لبنائها، تقترض من هنا وهناك ثم تسدد ما عليها، بعد ذلك رُزقتْ بزوجٍ يقاسمها صراع الحياة، ثم ما لبث أن وقع طريح الفراش لتكون هي المعيلة له، انتبهتْ من شرودها على صوت رنين الهاتف خفق قلبها بشدة وهي ترى اسم ابنها الكبير متصلا، بعد أن اطمأنت عليهم جميعا، هطلتْ منها دمعة اشتياق لابنتيها اللتان مُنِعتا من التواصل معها، مسحت دموعها المتطايرة آمرة السائق بالنزول لتنظر إلى عنوان بيت تكمل يومها فيه عملا، شكرتْ الله شكر ثقة بأنه لم يتركها لضواري المجتمع، بل ألهمها القوة للكسب الحلال.
اضافةتعليق
التعليقات