بعد تلك المجزرة الرهيبة في كربلاء التي ذهب ضحيتها ما يناهز المائة والأربعين شهيداً من آل الحسين وأنصار الحسين، تشير الروايات بالإجماع أن عمر بن سعد قائد الجيش الأموي، قد صلى على القتلى من صحبه ودفنهم، وترك الحسين وأصحابه دون دفن(١).
وهذا المظهر يشير إلى الإمعان بالحقد على آل بيت الرسالة، إذ لم تعرف العرب حتى في جاهليتها هذا النوع من التنكيل، وهو ذو ملحظ سياسي قمعي وردعي بوقت واحد فحيث يقتل ابن بنت رسول الله ولا يدفن وحيث تقتل كوكبة من أشراف الناس ولا يوارى أيّ منهم الثرى، فمعنى هذا أن النظام لا يبالي باتخاذ أشد الاجراءات عنفاً بشأن كل من يفكر في النكر على الحكم بقول أو عمل، هذا المصير الذي شاهدها لناس ظاهرة فجّة لا مراعاة للاعتبارات الإنسانية معها في مواراة جثث القتلى.
بل تركت وشأنها في العراء تصهرها حرارة الشمس وتسفي عليها رياح الصحراء اللافحة الجافة، لقد تناقل الناس أنباء هذه المشاهد الفظيعة، فأشاعت الذعر والفزع لدى الجميع، وظلت ماثلة في الأذهان بأبشع الصور، وبقيت آثارها مرعبة في الذاكرة البشرية وهذا بالضبط ما يريد تحقيقه النظام الأموي، ليكف الناس عن النضال وليستسلموا إلى واقع القدر السياسي الشاخص.
قال الشيخ المفيد: خرج قوم من بني ولما رحل ابن سعد أسد ولما كانوا نزولاً بالغاضرية إلى الحسين وأصحابه، فصلّوا عليهم، ودفنوا الحسين حيث قبره الآن، ودفنوا ابنه علي بن الحسين الأكبر عند رجله وحفروا للشهداء من أهل بيته وأصحابه الذين صرعوا حوله مما يلي رجلي الحسين، وجمعوهم فدفنوهم جميعاً معاً، ودفنوا العباس بن علي في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضرية حيث قبره الآن، وفي ترك الحسين له وأصحابه دون دفن دلالة سياسية ذات شقين.
الأول: دواعي الحقد والانتقام من أهل البيت بحيث تترك أجسادهم وأجساد أنصارهم في العراء ماثلة أمام الناظرين، إشباعاً للنزعات البهيمية لدى الحكام الأمويين وقوادهم وولاتهم، وفيه تحقيق لذلك النهم الفاغر في التشفي والكراهية لأهل هذا البيت وأشياعهم.
الثاني: إشاعة الذعر الجماعي في حياة الناس، واجتثاث روح التضحية والمعارضة الأدمغة، فالقتيل لا يوارى ولا ترى له حرمة من أي كان، وحتى إن كان الوريث الشرعي لرسول الله ولا قيمة له مهما كانت قيمته الاجتماعية أو الدينية أو السياسية في الناس ولئن صح الفرض الأول، وأشبعوا رغباتهم بالحقد والانتقام، أخفق الفرض الثاني دون شك، فلم تتوقف إمدادات الثورة، ولم تخب جذوة النضال، وسترى في آثار الثورة مصاديق هذا رغم كل الدلائل المأساوية التي عرض لها الثائرون.
ظاهرة قطع الرؤوس وتسييرها
ولم يكن هذا وحده هو الاجراء الانتقامي المرعب، فلقد افتتن النظام بابتداع ما لا عهد للناس به فاستحدث ظاهرة جديدة تتجسد في قطع الرؤوس وفصلها عن الأبدان، والأجساد، إيغالاً في الجريمة، وتأكيداً لسياسة الارهاب.
لقد تم انتقاء أكثر من سبعين رأساً من بين جثث القتلى فقطعوها وقد مثلت هذه العملية النظر السياسي في الاختيار على أساس المكانة والمنزلة الاجتماعية، ولم تكن عشوائية كيفما اتفق.
وهذه الظاهرة لم تكن معروفة في التاريخ الإسلامي وعند العرب، باستثناء رأس عمرو بن الحمق الخزاعي الذي قطعه والي الموصل لمعاوية، وبعث به إليه فكان أول رأس حمل في الإسلام، أما أول رأس رفع على خشبة، فهو رأس الحسين صلى الله على روحه، وتتابعت بعده الرؤوس في القطع والرفع كما سيأتي بيان ذلك.
وقد سرح عمر بن سعد من يومه ذلك، وهو يوم عاشوراء برأس الحسين مع خولى بن يزيد الأصبحي، وحميد بن مسلم الأزدي إلى عبيد الله بن زياد وقد تم توزيع الرؤوس بصورة دقيقة فاقتسمتها القبائل التي شاركت في قتل الحسين وأهل بيته وأنصاره تنكيلاً بأفرادها الذين لم يشتركوا في القتال، وتحذيراً لهم أيضاً عن التفكير في أي حدث مضاد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهو تقييم قبائلي عتيد لزعامة وأهلية من اقترفوا جريمة قتل الحسين وأهل بيته وأصحابه عملي معلن لمواقفهم الموالية للسلطة، من التداعي والانحطاط.
اضافةتعليق
التعليقات