دقّت الساعة السوداء فرأيتُ الضوء اختفى، اختفى كأنما وجوده لم يكن !
والأرض دارت الى كوكب النسيان ورمت بي داخل صدفة الاستفهام، استغربتُ الكثير من الاحداث بتلك الدقة التي صعقت مسمعي وانهالت عليّ بصفعات لا تمد للحياة الروتينية والاعتيادية بصلة...
لا اعلم ما الحاصل وما هذا الغروب الروحي الذي اشعر بأنه يستحقر اضلعي الضعيفة ويسكن ممرات حزني الثقيلة ويستخف بعاطفتي؟!
توقفتُ فجأة عن تلك الاحداث واخذتُ اصرخ واصرخ بوجه كل من اراه وحتى الليل الناعس لم يسلم من صراخي الثائر والجدارن والسقوف ثقبت من عليل انفاسي لأجد ملجأً، لكن التساؤل لم يتوقف عن مصارعتي، وقتها لم اجد نفسي إلا عند باب مسجد مغلق؛ فصرت اتأمل الحياة عند عتبته التي تمنيت لو ان لدي الجرأة لطرقها نصف مرّة!.
ثم اني اعلم أن لا فائدة من التجول في الساعة الثانية صباحا، فقررتُ العودة الى بيتي العتيق الواقع في احدى الازقة القديمة واستحضر النوم مرّة اخرى، لكنّ المفاجأة اذهلتني وجعلت اقدامي ترتجف ربما خوفا وربما ألما... وربما لا اعلم شعوري حين رأيت وكأنّ روح مقدّسة في احدهم نائمة على رصيف الخذلان ورأيت الحجارة تحت رأسها ملفوفة بقطعة من قميص مهترئ وبقايا القميص لم يسع لتغطية جزء من الجسد!.
حاولت رؤية وجه الشخص النائم لكن يداه التي حوطت رأسه عرقلت رؤيتي فانتظرتُ فترة من الوقت ليرفع يديه، اثناء افكاري المترددة في شأنه وقع طرف عيني على قدمه حينها اتضح الموقف بأنه ولد صغير لم يتجاوز سن البلوغ بعد، فتقلب عقلي وعاد في الزمن الى الوراء ليربط الثانية فجرا والاختناقات والاستفهامات والتساؤلات والتوتر.... مع بعضهم ليدرك انه مبعوث من الله لمساعدة طفل.
لكن من يكون تعيس الحظ هذا ومن عائلته، كيف اساعده وانا ايضا بحاجة مساعدة لأجد مفتاح على الاسئلة المداهمة لفكري..
طال انتظاري الى السادسة صباحا وربما اكثر بقليل؛ استفاق الولد فبدأ برفع جثته التعبة من على الأرض برفق!
جلست امامه لأفهم من هو.. لكنه رفض الحديث فطمأنته رغم ان قلبي يتأرجح قلقا.
نطق بعدة جمل: انا "يتيم الأب" وامي غادرتني الشهر الماضي، تركتني مع اختي التي تكبرني عاما واحدا، ومن يومها ونحن لم نجد غير الذل والضرب والقسوة من الذين خرجنا من صلبهم !.
ثم غادرني ولم يُكمل حديثه، وقتها عدتُ الى نفس النقطة لأستجمع الافكار واربطها ببعضها ثم ركضت ولأول مرّة اركض كأنني "عداء" امسكت برقبته وجثوت على ركبتيّ لتوجيه سؤال كان مضمونه: "حتى وان كنت يتيما وامك غادرتكم، ما الداعي الى النوم على ارصفة الشوارع"؟
بكى حتى شعرتُ بأن الدمع في عينيه انتهى وحباله الصوتية تحجرت من كتم صوت الوجع..
وجهت سؤالا ثانيا؛ ما الذي يبكيك بحرارة جعلت من وجنتيك مصباحا بإضاءة حمراء؟
اجابني وكأنه رجل مسن ملأ رأسه الشيب..
أ لم يفهم عقلك الإنساني قولي حين قلت اني يتيم الأب؟
كانت إجابته واضحة وتدل على رسالة مفهومة، انه يعاني كثيرا لكنه عاجز عن فعل اي شيء، ازدادت حيرتي لأعرف كيف انقذ دموعه الغاضبة من السقوط .
تسللت بعطف الى داخله للمعرفة، فقال بيأس تام: لا احد يتحمل عبئ يتيم ومن يتحمل اعباء الايتام، يطلبون مقابلا لكل شيء كأن يطلبون المال من الذكور والخدمة من الاناث ومن يعصي لهم امرا سيعاقب بعقاب لم تشهده انفسهم يوما.
اكتملت الصورة في عيني لكن المساعدة من اين ابتدأها، فقررت في نفسي الذهاب لأهلهم والتكلم معهم لمعاملتهم بلطف وإنسانية ترضي الله اولا ثم ترضي الطفلين اللذين جعلهما الله امانة في اعناقهم؛ وبعد تفكير عميق في افكاري المتضاربة فيما بينها، ذهبت اليهم وكُلي رجاءا ان يكونوا أناس بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني باذخة، لكن ردهم كان كصعقة كهربائية، كأنها رمتني من قمة جبل ولم تصل بي الى الأرض! حين قالوا: ايتامٌ بلانا الله بهم!.
كانت ضمائرهم مرتاحة وهم يعذبون طفلين بالإهانة والانتقاص من ذاتهم ورميهم على قوارع الطرق تنتشلهم الأرصفة.
ماذا افعل الآن وقد مضى ايام على الطفلين في نفس الحال واسوء، تذكرت ملجأ الايتام انهم يستطيعون البقاء فيه ..!
فزرتُ العائلة ثانية واخبرتهم بملجأ الايتام لوضعهم فيه لكن مظهرهم وسمعتهم امام الاقارب والجيران لم تسمح لهم.
انتهت محاولاتي مع العائلة بالفشل فقدمت شكوى الى مركز الشرطة حول المشكلة وبعد مفاوضات واعتراضات واحكام ذهب الطفلان الى الملجأ ليكملوا بقية حياتهم، كأنّ هذا المكان والعاملين فيه اكثر امانا وحرصا على الاطفال من اهلهم!.
انتهت مسؤوليتي الآن، لكن لم اشعر بالراحة وانا افكر كم من طفل يعاني اليوم وسيعاني غدا وكيف للظلم ان يتغلب على بعض البشر بهكذا سخرية.
اضافةتعليق
التعليقات