يغذي عمالقة الإنترنت الكثير من الأفكار المغلوطة، الناتجة عن التوليف ما بين أيديولوجيا البدايات فائقة التحرر، والمصالح الاقتصادية الراهنة. حيث تفترض هذه الفكرة الأولى وجود آلية للضبط الذاتي بمثابة يد خفية، لتصحيح الاختلالات الوظيفية الاجتماعية والاقتصادية المتولدة عن التطور الرقمي.
وحيث تتحدث صيغتها البراغماتية عن «الانضباط الذاتي»، فالاعتقاد بأن شركة أعمال بإمكانها «وضع الخير العام في خياراتها الاستراتيجية، بالحسبان، والقبول، دون أن تكون مرغمة على ذلك، بتقييد مداخيلها بغية تحسين الصالح العام، لا يعدو كونه رهان يجافي العقل. وعلى العكس من ذلك، يبين التاريخ الحديث أن تهديداً منسقاً بفرض الضوابط على عمالقة الإنترنت بإمكانه أن يكون بذات فاعلية النصوص المفروضة. كما أن التفاوض ممكن على الصعد الوطنية، والأوروبية، وحتى العالمية. إذ تركز النقاشات حتى الآن على إعادة توزيع المداخيل. وذلك من خلال الضرائب، بالتأكيد، وإنما كذلك من خلال المدفوعات المباشرة في إطار احترام حقوق الملكية الفكرية.
كما يمكن للضوابط أن تطال إعادة توزيع الوقت (بدل استئثار الشاشات بمعظمه)، ومن ناحية ثانية، هناك مصلحة على المدى البعيد في مساعدة هذه البنى التي ما زالت حديثة، كي لا تدمر، على المديين المتوسط والبعيد، الصلات التي تقيمها مع مستخدميها. ذلك أن اعتمادها على الذين يستخدمونها، وكذلك حالات الكآبة والتعب تمثل أعراضاً، تضع موضع الإدانة أسس المنصات الاجتماعية ذاتها، بمقدار بروزها إلى العلن وشيوعها بين المعنيين.
إذ يتمثل الحد من استقطاب الانتباه بواسطة خوارزميات «قرصنة العقول، وتوابعه من رسوم تمثيلية، في مقايضة خفض المردود المالي المباشر لقاء تزايد ديمومتها فرض تفاوض على معايير تطبيق خوارزميات استقطاب الانتباه، من خلال تركيز التدخل الجماعي على ما هو جوهري في المنصات، تجنب المبالغة في التأطير بغية الحفاظ على الحرية على الشبكات. يتعين تفضيل ثلاثة مجالات على هذا الصعيد. التركيز، في المقام الأول، على الخوارزميات التي تحدد إعداداتها بغية رفع الفاعلية الاقتصادية للرسائل، التي تمنح مكافأة مشاهدة للمحتويات التي تثير الغضب والانفعال.
ولا تشكل الشفافية، المتعلقة بآلية عملها، سوى مرحلة أولى، حيث يتعين النظر في إمكانية الحد من مدى تطبيقها ومجاله. 2025 مع بروز ثم هناك واجهات المستخدم الرسومية (Graphisme) من قبيل التصميم المظلم (Dark design) التي يمكنها توليد سلوكيات إدمان، أن هذه التفاعلات سوف تتغير من الآن مع حتى عام أدوات أقل قابلية للرؤية على الهواتف الذكية. حيث يمكن أن يتقارب فرض صفة «سوية، أو أخلاقية في بناء التفاعلات من إجراء في مجال الصحة العامة.
وهناك أخيراً، حقل التطبيقات، ضمن هذه المنصات ذاتها، في مجال منطق الانتباه الإعلاني، والذي يشمل راهناً مجمل الصفحات والخدمات. إذ قد تطورت وسائل الإعلام التقليدية من خلال الفصل القاطع بين ما يمت إلى الإعلان، وما يمت إلى الأخبار وسواها من عروض التحرير. وبالتوازي شنت كل البلدان قواعد وقوانين بغية تأطير الرسائل الإعلانية (بمن فيها الولايات المتحدة منذ العام 1920، فيما يخص الإعلان الإذاعي، وذلك تحت تأثير ضغوط روابط المستهلكين). التفكير في الإطار القانوني للمنصات، وذلك من خلال الخروج عن النموذج الأميركي الذي يقول بانعدام المسؤولية التحريرية لمقدمي الخدمات. ذلك أن تحديد مسؤولية ملائمة هي طريق طويلة، ومتعرجة، وصعبة، وأما تطبيقها على مجمل الخدمات، والمحتويات المعروضة فهو مسألة مستحيلة، مما لا شك فيه، إلا أن هذا التطلع مطروح.
ولقد بدأت المناقشات ولو أنها مبعثرة وتتسم بالفوضى. وعندما نتحدث عن الإعلام، فإن ممارسة المسؤولية القانونية يفرض مصداقية لا يمكن قيامها من دون تخصيص موارد مالية لذلك.
يوجد في هذا المجال إطار جديد لتفاوض ممكن مع وسائل الإعلام ورؤساء تحريرها تطوير عروض رقمية لا تستجيب لاقتصاد الانتباه. ولا يمكن أن تقتصر هذه المبادرات على المشاريع الرئيسة المنادية بإنترنت مضاد مثل التي أعلنها تيم بيرنرز-لي، حيث تحظى أفكار طموحة بإقامة شبكات اجتماعية «عامة» بالدفاع عنها حتى في بعض الأوساط الجامعية الأميركية (من قبيل مختبر وسائل الإعلام المدنية، في مختبر وسائل الإعلام في معهد MIT، على سبيل المثال)، وتذكرنا بالمبادرات الأوروبية في مطلع القرن العشرين في موضوع وسائل الإعلام السمعية البصرية : وهكذا تم إنشاء محطة (BBC) بي بي سي للإفلات من سيطرة المصالح الخاصة وسوق الإعلانات، إلا أنه بالإمكان تطوير أعمال أخرى أقل عظمة، وذات جدوى مماثلة مما لا شك فيه، من خلال تشجيع إنتاج خوارزميات الاكتشاف والإنماء. ويشكل تطوير ذكاء اصطناعي «إيكولوجي، (محاب للبيئة) مسار آخر نحو الإنترنت المضادة. من مثل مشروع صناعي وتقني طـمـوح وواقعي لأوروبا، أقل إسـرافـاً فـي الـوهـم مـن الـغـوغـل الأوروبي، أو «الفيسبوك الأوروبي».
لوسائل الإعلام العامة دور أساسي تلعبه في هذا المجال. إذ طالما أنها ليست ممولة من مردودات الإعلان، وكونها أمينة على رسالتها ذات البعد الكوني، بإمكانها ويجب عليها أن تحتل المنصات كي تحمل لها رسالة مختلفة، ومدققة لجهة صحتها، ما يتيح (فترة استراحة، في حالات منطق الانتباه المحض. وبهذا فهي سوف تشكل عروضاً مضادة ضمن العروض العامة، وكذلك سلطة مضادة في مواجهة سلطة الشبكات. ومن ناحية ثانية، تشكل عروضها البديلة فرصة لبناء أدوات تقنية تقوم على مبدأ تشغيلي يذهب عكس اتجاه منطق اقتصاد الانتباه. أي بناء خوارزميات تعرض الانفتاح على أفكار أخرى، وحقول ثقافية أخرى، وأنماط أخرى من الروايات، وتكوين أدوات ضبط الوقت المصروف على عروض الناشئة والشباب، وكذلك عروض الراشدين، مع آليات تنبيه في حالة الإفراط في الاستهلاك.
وكذلك تطوير واجهات مستخدم تريح أكثر مما تغري وتستنفر، واقتصار التنبيهات والإثارات على الحد الأدنى الضروري، ويضاف إليها عروض برامج تطلبت استثماراً عالياً في الوقت لإنجازها (من قبيل الوثائقيات والأعمال الإبداعية)، مع خفض الأصوات الصاخبة، ومنع آثار تسارع تحرك الصور وتبدلها، وهناك الكثير غيرها من الأعمال التي يمكن القيام بها في هذا المجال.
اضافةتعليق
التعليقات