كم مرة نظرت إلى المرآة وحدثت نفسي، اعتدت كل يوم أن أقف أمام تلك اللوحة الصافية التي يقال عنها مرآة، أبحث عن شيء جديد في ملامحي، أتمتم مع نفسي بهمهمات لا يعرفها غيري، عند أول حديث يطرأ في بالي، كيف لهذه الملامح العشرينية أن تظهر بهذه التجاعيد الأربعينية، خيط من اللون الأبيض، بدأ يلون خصلات شعري، علامة أن الروح قد شاخت ودخلت سن اليأس..
من يفكر في تفاصيل يومه سيجعل في حياته خيوط سوداء تقتل كل شيء أبيض في داخله، ماذا لو أصبحت هذه المرآة تتكلم، هل ستفصح عن أسرار ملامحنا، هل ترى تلك الندوب التي شوهت ملامحنا فأصبحت باهتة، ليس أمرًا هينا، فقد قتلت سنوات الأمل في داخلي، في كل موقف كان يمر اسرفت في التدقيق في التفاصيل وحملت الهموم قبل أوانها لذا يجدر بي أن لا أعاتب هذه الملامح الصفراء، ولا تلك اللوحة الصافية فأنا من شوهت صورتها..
بنبرة غضب أمسكت ورقة الصحف ومسحت آثار وجهي من المرآة، لكنها بقيت عالقة وكلما اقتربت ظهرت، كانت صرختي تضج في الغرفة، ما هذه الهموم والأحزان، متى ستنتهي، جاءني الجواب من جدتي التي كانت تنظر الي وأنا أحاور مرآتي، ابتسمت وهي تنفض عن صدري الهموم، قائلة: حفيدتي إن هذه المرآة صافية وملامحك أيضا صافية لكن هناك في زوايا قلبك شيء أكبر من هذا العمر الذي تحملين رقمه جعلك تشعرين بسواد هذه الدنيا، يا صغيرتي لا أحد ينجو من مصاعب الحياة وكل انسان يحمل ما يكفيه من الحزن والقلق، وكل ما يتطلب منكِ الآن هو أن تعرفي معنى الاعتدال في الحياة فلا حزن مفرط ولا سعادة تامة، واعرفي كيف توازنين بين متطلبات الجسد والروح، فالتوازن يا حفيدتي هو إعطاء كلّ شيء قدره من غير زيادة أو نقصان، وكذلك الأمر بالنسبة للاعتدال..
وليس فقط في الجانب النفسي فهناك اعتدال في كل شيء في الحياة، حتى العبادة وأدائها وفق شروطها وأركانها، لذا فرض الله الصلوات الخمس وأعطى الأجر والثواب لمن قام بالنوافل والمستحبات، والاعتدال في رعاية الصحة للإنسان كالطعام والشراب، والمعاشرة الاجتماعية بضوابط دينية وأخلاقية والعلاقات الإنسانيّة..
وعلى الجانب الروحي أيضا فلا يمكن أن تحملي هم الغد وانتِ لم تعيشيه بعد، وهم الأمس فهو مفقود ولا يمكن أن يعود، تذكرت أن هناك قصة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) عندما دخل الْحارِث الْهمدانِي على أَمِير المؤمنين (عليه السلام) وهو مثقل بالهموم متكأ على عكازيه وكان مع مجموعة من الشيعة، فَأخذ الْحَارِث يَتَأَوَّدُ فِي مِشيَتِهِ وَيَخْبِطُ الْأَرْضَ بِمِحْجَنِهِ وَكَانَ مَرِيضاً، وكانت لحارث منزلة قريبة جدا من الامام علي، تعجب الامام من حالة حارث وسأله كَيْفَ تَجِدُكَ، يَا حَارِثُ؟
أجاب: نَالَ الدَّهْرُ مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَزَادَنِي أُوَاراً وَغَلِيلًا اخْتِصَامُ أَصْحَابِكَ بِبَابِكَ.
علم الامام أن لدى حارث هم كبير فرد (عليه السلام): وَفِيمَ خُصُومَتُهُمْ.
يزفر حارث عن حسرته ويقول: فِي شَأْنِكَ وَالْبَلِيَّةِ مِنْ قِبَلِكَ، فَمِنْ مُفْرِطٍ غَالٍ وَمُقْتَصِدٍ قَالٍ، وَمِنْ مُتَرَدِّدٍ مُرْتَابٍ لَا يَدْرِي أَيُقْدِمُ أَوْ يُحْجِمُ.
فرد أمير المؤمنين: فَحَسْبُكَ يَا أَخَا هَمْدَانَ، أَلَا إِنَّ خَيْرَ شِيعَتِي النَّمَطُ الْأَوْسَطُ، إِلَيْهِمْ يَرْجِعُ الْغَالِي، وَبِهِمْ يَلْحَقُ التَّالِي.
تمنى حارث بعدما سمع كلام أمير المؤمنين يا حفيدتي ان يكشف الرين عن قلبه ويكون على بصيرة من أمره، فأكمل الامام حديثه مع الهمداني وحتى قال: "لا تعرف الحق بالرجال اعرف الحق تعرف أهله"*..
يا حلوتي من عرف الحق بالرجال حار في متاهات الضلال، الطريق إلى الحق يا حفيدتي منى، هو اجتناب أمور الباطل، في كل مجال حياتكِ، في الجامعة مع الصديقات عندما تعرفين أن هذا الامر باطل تعرفين جماعته، ففي هذه الأيام كثر الباطل من المغريات (الغناء وأكل الحرام وقتل النفس..) واتبعي الحق فهو كفيل بأن يزيل عنكِ تجاعيد الباطل وستزهين كما يزهر غصن النعناع يا صغيرتي.
اضافةتعليق
التعليقات
العراق2019-01-30