حينما يبصرون النور وتراهم اعينهم يكبرون، تنتشي قلوبهم وينفض غبار الزمن الذي تراكم منذ سنوات وتشق التنهدات طريقها بعدما اضناها التعب.. لكن حينما يرون نجاحهم في كل مجالات الحياة يتناسون ما اتعبهم وما كاد ان يخمد انفاسهم ويقصم كواهلهم، فقد جنوا ثمار ما زرعوا حيث اوصلوهم الى بر الامان.. والان وبعد سنين تعود دورة الحياة الى اسس الطبيعة التي وضعها الله فقد دقت النواقيس ليردّوا ولو جزءا ضئيلا مما قدمت تلك الايادي التي ذبلت من قسوة الحياة وجف الرمق من كثرة الدعاء لهم .
ابناء منهم من قدّس الارض التي وطأت عليها اقدام والديهم ومنهم من كان عاقا لهما فوخز قلبيهما بخيبات الامل ..
وبالوالدين احسانا
(ضربني) قالتها بهدوء تام وكأنها تحت تأثير مخدر قالتها وفاضت مدامعها وراحت تسرد ما قاسته من قبل ان تنتقل للعيش في مدينة كربلاء، (الحاجة ام حسن/ 62 سنة/ موظفة): كنت اعيش في مدينة ديالى وقد كان لي اربعة اولاد، ثلاثة شباب ومن بينهم صبية، توفي زوجي واصبحت انا لهم أما وأبا، وهبت لهم عمري لاراهم بافضل حال.
لم استطع ان اتحمل فراق ولداي الكبيران وكان يصعب عليّ ان لا اكون قربهما وهما نائمين في قبرهما حيث طالتهم ايادي الارهاب برميهم بالرصاص في عام 2006 مع 21 طالب في نفس الباص الذي كان ينقلهم الى الجامعة وقد كانا ولداي من بينهم، رحت اعدو هائمة بين الجثث لأتعرف عليهما، وحينما انتبهت من حزني الذي استمر عامين قررت ان انتقل لأعيش قربهما في كربلاء، تزوجت ابنتي وما بقي لي سوى ابني الاصغر (ايمن) كنت حريصة عليه والخوف يطوقني، خشيت ان اخسره كما خسرت شقيقيه، وفّرت له كل متطلبات الحياة، اردت ان ارى فيه اخوته ووالده وعمري الذي مضى وعمري القادم، لكنه فطر قلبي حينما رفع كفه ليصفعني ليرضي زوجته التي قالت له (لن اكون لك زوجة ان لم تضربها امامي لارى الانكسار بعينيها والذل والهوان)، انصاع ايمن لمطلبها وفعلها دون تردد، ادخلته جامعة الاعلام في بغداد اردت ان يتعلم ويسمع لعله يتغير، انفقت عليه كل ما املك، حاولت كسب زوجته لانه شديد التأثر بها فلعلها هي الاخرى تتغير فأدخلتها كلية القانون وكنت انفق عليهما وعلى طفليهما لكن دون جدوى.
حتى بعد تدخل المقربين بل ازدادت سوءا وراحت تكرّه احفادي بي وتبعدهم عني ولا تسمح لاحد بزيارتي من اقربائي او صديقاتي، ما كنت ارضى لتصرفاتها وما تفعله فانصحها للصواب واحدث ايمن بأن ينتبه لها لكن كلامي لم يسر خاطرها، فانتهت علاقتي بإبني بسببها، لا لانه ضربني بل لاني تعبت عن البحث في عينيه عن نظرة حب او عطف او حتى شفقة على حالي وتعبي وعلى كل ما قدمته له من يوم ولادته الى اليوم الذي اعتلى به منصة التخرج.
تركت البيت وذهبت للعيش مع اقربائي فبينهم وجدت الحب والاحترام الذي لم اجده مع ابني ايمن لحينما اكمل بناء بيت قررت العيش وحدي فقد اخذ اليأس يتسرب لقلبي بأن يكون ابني كما تمنيت، وانهت كلامها قائلة: لا اريد شيئا منه سوى ان يصحو لنفسه قبل الهلاك ليرضى الله عنه فالله لا يرضى الا برضى الوالدين وانا بداخلي لست راضية عنه .
من جهتها قالت (ام علي/ 45 سنة): لماذا يحرّمون ما حلله الله، بسبب ما قالوه خسرت ابني وللأبد، توفي زوجي وترك لي ابنتين وولد، كان عمري حينذاك سبعة عشر عاما، رفض اهل زوجي ان اعود لبيت اهلي واخذ اطفالي، ولفقر عائلتي وعجزي عن التكفل برعاية اطفالي بقيت اعيش في بيت زوجي المرحوم مع عائلته، تقدم لخطبتي عدة رجال، لم يكونوا يرفضون زواجي بل قالوا تزوجي لكن اطفالك لن يبرحوا بيت جدهم، تزوجت شقيق زوجي، لم يكن لدي خيار اخر لاني صبية ورحلة العمر التي بانتظاري كانت طويلة وقاسية، فوجدت عم اطفالي هو اكثر من سيحافظ عليهم حتى وان كنت الزوجة الثانية.
لن اتحدث عما قاسيته بعد الزواج بل عن ابني الذي ضاع، مما دسوا في رأسه من كلام بذيء وقاسٍ حتى اخذ يبتعد عن احضاني وترك مدرسته، واي شيء يكون لصالح مستقبله لا يفعله، كان يفعل العكس ليشعرني بالذنب فكلما كبر (علي) كبر ذلك الشق بيننا واخذ يبتعد اكثر عني ويأنبني ويقول؛ لماذا تزوجتِ، حتى قالها اكرهك واكره اخوتي الذين هم من عمي فقد فضلتيه علينا ولم تكترثِ لامرنا ورحت تتزوجين لتتبعي ملذاتك، كانت كلماته كالجمر وبمنتهى الانانية والجحود.
واصلت ام علي حديثها: صحوت في الصباح ليصل لي نبأ ان علي باع البيت الذي اشتريته له من ارث والده وترك عمله الذي أمنّه له عمه وهاجر مع المهاجرين، صعقت لما سمعت بل اختنق صوتي فما عدت اقوى حتى على الصراخ، رحل علي ولا ادري الى اين، مضت شهور وما زلت اجهل اين هو؟.
"لقد عانيت كثيرا في حياتي من مطبات الحياة"، هذا ما استهل به (ابو غانم 70 سنة) كلامه وتابع بالقول: لكن ما قاسيته من ابني البكر غانم اعاد كل معاناتي التي تمنيت ان يبعدها عني بكبره ويحمل عن كتفي عبء المسؤولية، لي سبعة اطفال، ثلاثة اولاد واربع فتيات كل منهم شق طريقه، من تزوج ومن تخرج إلا غانم لربما لم افهمه قدر المستطاع لكني قدمت له كل ما استطيع وما زلت اجهل كرهه لي، حاولت ان اضغط عليه، ضربته وطردته، اردت ان يتحمل مسؤولية نفسه ويعي لما يدور حوله، فاجأني بأن يرد لي الضربة نفسها وبقوله أن ليس لدي حق بأن اضربه.
اكتفيت بالصمت وتركته على سجيته قلت في سري سيغير من نفسه بنفسه، لكنه لم يحرك ساكنا وبقي كما هو، مضت سنوات وهو يعيش في البيت معي لا يكلمني ولا ينظر بوجهي حتى حينما دخلت المشفى لم تحمله قدماه ليزورني، طلبت من بعض اصدقائي ان يسعوا بتأمين عمل له لكنه رفض العمل وفضل المكوث في البيت، مضى اكثر من 20 سنة وغانم لم يكلمني ولم يتحمل اية مسؤولية اتجاه نفسه او أخوته، ما يحزنني وضع والدته التي تزداد وطأة مرضها كلما رأته عاقا .
(نظرة شرعية)
الشيخ نزار التميمي شاركنا من الناحية الشرعية مستهلا كلامه بقول الاية الكريمة: قال تعالى (وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه وبالوالدين احسانا).
انتشرت ظاهرة عقوق الوالدين في وقتنا الحاضر واصبح المجتمع يعاني بصورة واضحة من هذه المشكلة ونتج عن ذلك التفكك الاسري وهدم وضياع القيم الدينية والانسانية التي تربط الناس فيما بينهم فتنكر الابناء لوالديهم تاركين وصية الله سبحانه وتعالى ولا يعمم هذا الكلام على الجميع.
فيعد عقوق الوالدين من أعظم الذنوب التي يُمكن أن يرتكبها الإنسان طوال حياته، فقد نهانا الله تعالى عن أبسط الأقوال التي يُمكن أن تؤذيهم حتى كلمة أف نفسها، لكن ما نراه اليوم في محيطنا ومجتمعاتنا ينم عن جهل عظيم بخطورة هذا الفعل، فهذا ابن ترك والديه وانغمس بحياته ومشاغله دون أن يسأل عنهما وذاك آخر يتعمد اهانتهم واخر يرفع صوته على من ربياه واعتنيا به حتى اشتد صلبه حتى أن الأمر وصل بالبعض لقتل والديه.
فقد وصل البعض لهذه الدرجة من الجحود والظلم، ولو علم كل شخص خطورة عقوق الوالدين لما رفع عينيه فيهما أو فكر ولو لبرهة في إهانتهم لذلك في هذا يجب بيان وايضاح خطورة هذه المشكلة وأهمية التصدي لها وعقوبة العاق في الدنيا والآخرة.
وهناك الكثير من الايات والروايات والاخبار عن أهل البيت عليهم السلام، التي تؤكد على بشاعة وقباحة مثل هذه الاعمال اللا اخلاقية واللا انسانية التي يمارسها بعض المحسوبين على الاسلام للاسف الشديد تجاه آبائهم وامهاتهم في مجتمعنا المسلم.
واضاف التميمي: يجب ان نقابل احسان الوالدين بالشكر وان نسعى لارضائهما وطاعتهما في كل ما يأمرانك به إلا ما كان في معصية الله، وحق الام والاب ان لا نتأخر عن عونهما وقضاء حوائجهما وان نعرف فضلهما ونبرهما حيَين وان لا ننسى برهما ميتين بالترحم عليهما والاستغفار لهما واداء الحقوق عنهما، وقد جاء في الحديث: (من نظر الى ابويه نظرة ماقت لهما وهما ظالمان له لم يقبل الله له صلاة).
اضافةتعليق
التعليقات