لابد من طريق يسلكه الإنسان في حياته العمليّة، وهناك طريقان: طريق الهداية، وطريق الضلال. وهما معيار الحياة.
ومعنى الحق هو اعتراف الإنسان بالصدق سواء على نفسه أو على غيره. وكلما كانت الكلمة التي تحاكي الواقع فهي عمل حق والعمل الذي ينبثق من الواقع هو عمل حق، والموقف الذي يفرضه واقع الأمر هو موقف حق.
فإذا عرف الانسان الحق، وجب عليه اتباعه والتزام موقفه، وإن كان ذلك يتعارض مع مصالحه وأهوائه. وهنا تكمن مشكلة الحق في أنه يتعارض غالبا مع أنانية الانسان وأهـوائه، مـما يجعل الانسان يفارق موقف الحـق ويـتبع البـاطل إشباعا لشهواته وغرائزه.
إنَّنا في كلِّ تاريخنا الحديث، في كلِّ حركة الصِّراع الَّتي عشناها، سواء كانت قضية دولية عربية، أو داخلية، أخص بالذكر السكوت على ظلم نظام الطاغية وبعد سقوطه وتوالي النكبات من دخول داعشثم رياح الطائفية والفتن التي أرهقت شعبنا فكان سبب ريحها المصفر تأخر تقدمنا كباقي الشعوب؛ إنما كانت بسبب ضعفنا وخضوعنا، وهو الَّذي أعطى الآخرين كثيراً من قوَّتهم، والسكوت عن القضايا التي تتحدى انسانيتنا الفكرية والعقائدية، بسبب ضعف مطلق هناك وقوة محايدة جامدة هنا.
وقد اختلفت معايير الحق والباطل بين أفراد الأمة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وهل هناك أكثر مظلمة للحق من أمة خالفت رسولها ووصيه عندما أمره الله بالتبليغ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ... ﴾ بعد عودته من الحج في غدير خم فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيد علي فقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه و عادِ من عاداه"، فاختلط الحق بالباطل على مدى تاريخ المسلمين اختلاطاً قاسياً أورث الأمة الكثير من المواجهات والحروب والانقسامات، فتاه المسلمون وضاعوا وغرقوا في مستنقعات الضلالة والجهالة.
إنَّ الإنسان الَّذي لا يشارك في أيّ موقع من مواقع الصِّراع ولا يتدخل في القضايا الكبرى في الحياة، خوفاً على منصب أو جاه هو انسان ميت، لأنَّ قضية أن تموت، ليس أن يموت جسدك، ولكن قضيَّة أن تموت أن يموت دورك في الحياة، وهذا ما ينبغي لنا أن نفكِّر فيه.
فالعمل بالمعروف والنهي عن المنكر هو الحق، والسكوت عنهما هو الباطل بعينه. فكانت من مسببات تدهور واقعنا. ومن هذا المنطلق كان لأمير المؤمنين (عليه السَّلَام) كلام في غاية الدقة والوصف في وصيته لابنه الحسن (عليه السلام) عند عودته من صفين بحاضرين حيث قال: "وخض الغمرات للحق حيث كان، وتفقه في الدين وعود نفسك التصبَْر على المكروه".
لو لاحظنا البلاغة في هذا الشطر من النص من وصية الإمام لابنه الحسن (عليه السلام) لوجدناه مترابطا كسلسلة نورانية معرفية فالذي يحمل شعار الحق ويخوض غماره لابد أن يكون متفقها في الدين يخاف مقام ربه عارفاً بعلوم وتعاليم دينه حتى يكون الصبر حليفه للدفاع عن معتقداته ونصرة الحق ولا تأخده في الحق لومة لائم.
لا يريد الإمام عليٌّ (عليه السلام) للإنسان أن يكون حياديّاً، عندما تكون المعركة معركة حقِّ وباطل. فالحق يحتاج إلى شجاعة وحزم والحياديّون بين الحقِّ والباطل يخونون إنسانيَّتهم، ويخونون الحياة ويسقطونها. وبين الإمام أيضا على أن أفضل الناس عند الله هو مَن انتهج طريق الحق وإن كلفه جهدا، فهو أحب إليه من سلوك طريق الضلال وإن جلب له مغنما. فنحن نعلم أن طريق الحق وعر وشائك ولكن حتماً ستكون الغلبة لأهل الحقّ، وقد ينتصر الباطل في بعض الجولات، ولكن النهاية السعيدة لن تكون دائماً إلا لأولئك الذين استناروا واهتدوا بهدي الله تعالى الذي ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلاّ بالحق.
فلابد للمؤمن والساعي في الحق لزوم الصبر على مايكره وتحمل مايكره. حيث قال الإمام: "وعود نفسك على التصبر على المكروه".
نعم، ففي بعض الأحيان يغلف الباطل بغلاف الحق، وهو ما نعاني منه في وقتنا الحاضر حـيث تـرتفع شعارات الحق بمختلف العناوين والمظاهر كشعار الوحدة والحرية والعدالة والتقدم، ولا شك أن هدف هـذه الشـعارات بـذاتها هدف حق ولكن من يرفعها إنما يستغلها من أجل الباطل. على سبيل المثال "حقوق المثليين" في التحرر واعتراف بعض الدول بالجنس الثالث. فلم تكن كثرة الأصوات يوما مقياس للحق
كما يظن أكثر الناس حيث يستدلون باتجاه غالبية الناس ومـيلهم إلى أمر مـا على أحقية ذلك الأمر .
إن القرآن الكريم يرفض هذا المقياس ويقول: {واكثرهم للحق كارهون}.
و قد عانى الإمام علي (عليه السلام) نفسهُ مـن هـذه المشكلة في صراعه مع طلحة والزبـير وعائشة والذين كـانوا يـمثلون كبار الأمة وشخصياتها ولكن مـوقفهم لم يـكن مطابقا للحق، ورغم ذلك فقد انخدع بهم كثير من الناس وشكك آخرون، لأنـهم لم يـملكوا المقياس الواقعي للحق، بل اعـتبروا هـؤلاء مـقياسا لمعرفة الحق.
إذن ماهو معيار الحق؟
إن مقياس الحق واضح كوضوح أشعة الشمس وهو طريق النور ومقياس لسلوك المؤمن في الحياة من أهمها:
الأول: القرآن كلام الله
إنه لا ينبغي للانسان أن يشك في أن أمر الدين ورأيه هو الحق الصحيح الذي لا جدال فيه يقول تعالى: {يا ايها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم}. لأجل سلوك طريق الحق، واجتناب الباطل، لا بد من العودة إلى القرآن أولاً، لأن القرآن هو المعيار الأول لمعرفة الحق من الباطل.
وهو الذي يدلّنا على الطريق القويم ويهدينا سبيل الرشاد، ويعلمنا سُبُل بلوغ الحق، واجتناب الباطل لذلك كانت العودة إلى كتاب الله العزيز هي المفصل الأساس لتشخيص تلك الموازين التي نستطيع من خلالها معرفة الحقّ من الباطل. ولكنّ ذلك لا يمكن أن يمرّ على من وعى القرآن بقلبه وعقله وتفكّر في آياته.
لأجل سلوك طريق الحق، واجتناب الباطل، لا بد من العودة إلى القرآن أولاً، وجعله حاكماً فينا، وهادياً ودليلاً إلى الحق، لأنه المصدر الأساس لمعرفة الحق والباطل والذي يعرض المقاييس الصحيحة لمعرفة الحقائق، فلو أخطأنا في التفكير وسرنا في الطريق المنحرفة، فإنّ القرآن الكريم هو الذي يدلّنا على الطريق القويم ويهدينا سبيل الرشاد، ويعلمنا سُبُل بلوغ الحق، واجتناب الباطل.
يؤكد الإمام أيضا على أن أفضل الناس عند الله هو مَن انتهج طريق الحق وإن كلفه جهدا، فهو أحب إليه من سلوك طريق الضلال وإن جلب له مغنما، وإذا لم يُعمل بالحق النتيجة هي تمكين الظلمة وأصحاب الضلالة من التحكم والاستقواء والاعتداء على كل من يخالفهم ويقف في طريقهم.
فالحقّ حقّ ثابت في مقياسه، والباطلُ باطل، ولا يمكن الإنحراف عن هذه الجادة المستقيمة التي درج عليها المجتمع البشري السائر على غير هُدى، أمّا المجتمع الإيماني فلديهم معياراً تُعرَضُ عليه الأقوال والأفعال والأفراد والجماعات، ومن خلال المقياس الثابت للحق نتمكّن من معرفة أماكن الخطأ والصواب، وإذا انعدم هذا المقياس إستحال الوصول إلى الحق واجتناب الباطل، وانهدمت المجتمعات وتدهورت كما الأمم التي سبقتها بالانسياق خلف الرذيلة والابتعاد عن رسلها والكتب السماوية المنزلة عليهم.
الثاني: العقل
العقل الذيمنحه الله للانسان حتى يفكر به ويهتدي بضوئه إلى طريق الحق، و لذلك حث القرآن الكريم الناس على استعمال عقولهم والتـفكير بـها للوصول إلى الحق.
فيجب على الانسان أن يفتش عن الحق ويبحث عنه ازاء أي قضية أو أمر مستخدما المقياس الصحيح للتعرف عـلى الحق، ولو كلّفه ذلك جهودا وعناء.
الثالث: حديث الثقلين والتمسك بالعترة الطاهرة، يقول الإمام علي (عليه السلام): "وخَلَّقَ فينا راية الحق، من تقدّمها، مرق، ومن تخلّف عنها زهق، ومن لزمها لحِق".
وبهذا نصل إلى النتيجة البيّنة الواضحة وهي أن معرفة الحق يبدأ من اتباع القرآن الكريم، مروراً بالاقتداء براية النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وصولاً إلى التمسّك بنهج وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
بين الحقّ والباطل يتحمّل الإنسان المؤمن المسؤولية الكبرى في الوقوف إلى جانب الحق في مواجهة الباطل، وعند تشخيص الحقّ من الباطل لا يجوز لأيٍ كان التذرع بأيّ حجّة لعدم نصرة الحق. فاللذّة عند المؤمن تكمن في إتباع الحق، والمرارة في اتباع الباطل. ومن يكن قريباً من أهل البيت (سلام الله عليهم) وتوجهاتهم يدرك أن مواقفهم كلها عزيزة لأنها في طاعة الله تعالى أبداً.
من هذا المنطلق أكد آية الله صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله الشريف) على تعميم ثقافة أهل البيت (سلام الله عليهم) على أفراد الشعب كافة. فالذين عاشوا قبل هذه العقود السوداء يعرفون والحمد لله ثقافة أهل البيت، أما الشباب الذين نشأوا وولدوا في هذه العقود السوداء فلا يعرفون الكثير عنها، وهم بحاجة إلى ما يهتم بهم ويعمل على اغتنام الفرص وجمع الفلول والتركيز لتعميم هذه الثقافة على هذا البلد الجريح الذي هو بلد أهل البيت (سلام الله عليهم).
كما بين سماحته.. "إن الشعب العراقي المؤمن الموالي سوف يكون أسوة وقدوة لكل الشعوب الإسلامية ولكل شعوب العالم غير المسلمين أيضا، ولكن هذا الأمر بحاجة إلى همّة من الذين مكنهم الله تعالى في الأرض، ومنهم شيوخ العشائر المؤمنين الكرام، حيث عليهم أن يقوموا بلملمة شبابهم، بنین وبنات، كما فعل آباؤهم الكرام". قال الله تعالى: {لا يَضُرُّكُم مِّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}. لذلك ينبغي أن تكون الروح صلبة عند أصحاب الحق القائم على العقل والعدالة التي تتوافق مع التشريعات الإلهية.
وأخيراً لابد من التأكيد أنه لا يكفي إحراز الحقيقة والتعرف عليها فقط، إنما المهم الدفاع عنها أيضاً. وإذا كنت تريد أن تعرف معيار مقياسك من أهل الحق حتما ستكون هناك ساعة حرجة يبلغ الباطل فيها ذروة قوته ويبلغ الحق فيها أقصى محنته، والثبات في هذه الساعة الشديدة هو نقطة التحول.
اضافةتعليق
التعليقات