لم يكتب الخلود لثورة من الثورات التي مرت بها البشرية، كما كُتب لثورة السبط الشهيد عليه السلام، فهي خالدة بكل المقاييس، ثورة استطاعت أن تتغلب على الفناء والتلاشي، بفضل عطاءاتها الإلهية، فما كان لله ينمو كما قيل.. ولا ادل على ذلك من هذا الاندفاع البشري المليوني كل عام، لاحياء ذكراه وذكرى عاشورائه الدامية.
أما لماذا هذا الاصرار على احياء ذكرى الامام الحسين عليه السلام، رغم كل الظروف والعوائق التي قد تعترض سبيل الوافدين، ورغم برد الشتاء القارص وحر الصيف اللاهب، ورغم تنكيل الحكومات الظالمة والمتعاقبة على سدة الحكم؟
الجواب: لان الامام الحسين عليه السلام قد تحوّل الى رمز مظلومية.
فثورته عليه السلام قد جسدت عنفوان المظلومية بالاحمر القاني، وذلك عبر دماء زاكية أُريقت على رمال الطف قبل الف وثلاثمائة سنة، لكننا بفضل الاحياء السنوي لهذه الثورة، نشعر وكأنها حدثت بالامس القريب، فاصبحت الذكرى السنوية، هي قبلة كل مظلوم يريد ان يعبّر عن ظلامته بشكل من الاشكال، وان يوصل صوته الى آفاق العالم، فما عاد السكوت يُجدي نفعا، وما عادت الصدور قادرة على حبس ما يعتلج فيها من هموم وتطلعات... فالأمور قد تبدلت، وزمن الصمت ولّى الى غير رجعة، لذا اصبح مألوفا ان نسمع اعتراضات الناس تصدح عاليا من حناجرهم، وبياناتهم الناريّة تعرّي حالات الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، كما ان المواكب التي ينخرط بها هؤلاء المظلومين، تؤكد حالة الغليان التي تسبق العاصفة، فهم يستمدّون من إمامهم الحسين عليه السلام زادا لأيامهم المقبلة.. لقد تعلّموا رفض الظلم، والثبات على المطالب، واستشعار الخطر على الدين، وعدم الرضوخ للباطل وانْ عم، وانّ صوت المظلوم لابد ان يُسمع ولو بعد حين.
لقد وُصف الامام الحسين عليه السلام، بانه كعبة الاحرار، فمرقده الشريف مأوى لكل احرار العالم، على اختلاف اجناسهم وقومياتهم وألوانهم، وقد وُصف كذلك بأنه عَبرة وعِبرة.. ففي قضيته عليه السلام تجسدت أروع صور الثبات، وأسمى وأجل معاني التضحية والفداء في سبيل المبدأ..
لقد بذل الامام الحسين في سبيل احياء دين جدّه الغالي والنفيس، فلا ينبغي ان نتعامل مع ثورته على انها ثورة لطم وبكاء، وانما هي عنوانا للثبات ودروسا للوفاء والاستقامة، فهو لم يخاطر للخروج من المدينة باهل بيته واولاده واصحابه، وعرّضهم لكل تلك المخاطر إلا لعظم قضيته ورسوخ عقيدته، وايمانه بمبدأه الحق، لأن السكوت عن الظلم هو مشاركة فيه ومؤازرته، وهذا ما لا يقبل به أبيّ الضيم.. من هنا تعلّم العاشقون لأبي الاحرار، وتتلمذوا في مدرسته على مبدأ الإباء ورفض الذل والخنوع، فتعالت اصواتهم مندّدة بكل منحرف، أراد ان يصعد على اكتاف الناس بالباطل، وصدحت حناجرهم بمطالبهم المشروعة لمحاسبة الفاسدين والسارقين، من جميع الأحزاب المتأسلمة والتي سرقت، وتمادت في فسادها باسم الدين، والدين منها بريء.
فالامام الحسين (ع) ليس عَبرة وعِبرة فحسب، بل هو رُوح ورَوْح ايضا، رُوح يمدّ جسد الامة بطاقة الثورة، ويشعل فتيل الرفض بشرارة (هيهات)، ورَوْح لانّ ضريحه الزاهي جنة الله في أرضه.. محطة الارواح المتعبة.. وملجأ الراغبين الى الترويح والاستجمام المعنوي، فلا تطيب النفوس ولا ترتاح الا في أروقة وجنبات روضته البهيّة ((فروْح وريحان وجنة نعيم)).
اضافةتعليق
التعليقات