يتناول القرآن الكريم موضوع المرأة ويهتم به أشد الاهتمام، ويطرح نماذج نسائية متنوعة؛ بعضها سلبية الجانب، وبعضها إيجابية الدور، فيحذر من فعل الأولى، ويدفع باتجاه الثانية.
ومن بين كل تلك النماذج، يطرح القرآن الكريم نموذجين نسائيين لامرأتين عاشتا في قصور الحكم المصرية، وتعاملتا مع نبيين من أنبياء الله عز وجل، وكان لكلٍ منهما دورها الكبير في حياة النبي الذي عاصرته، وهما امرأة العزيز وامرأة فرعون، إلى جانب نموذج نسائي ملكي ثالث من الجنوب الغربي لشبه الجزيرة العربية.
والقرآن الكريم إذ يقدم هذه التجارب الثلاث من أروقة البلاط الحاكم، فهو يحاول أن يرسم منهجية محددة للمرأة والرجل بشكل عام، والمرأة بشكل خاص، والمرأة التي تعيش في ظروف مشابهة من حيث الجاه والمال والجمال بشكل أخص.
فالمرأة التي تعيش في ظل الغنى أو قصور السلطنة من كل عصر وزمان ليست ببعيدة عن مراقبة الله عز وجل، ولا أموال أبيها أو زوجها تغنيها عن سبيل الحق قيد أنملة، بل عليها أن تتخذ لنفسها الدور الذي فيه طاعة الله ورضاه، وأن تخدم دينها ومجتمعها من مكانها التي هي فيه، وتحذر من أن يستحوذ عليها الشيطان بإغراءاته ووسوساته فتنخرط في حزبه الخاسر وتنسى ذكر الله جل جلاله الذي يقول: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19]، كما يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9].
إننا في هذه المقالة، نحاول أن نطلع على تجربة الثلاث نساء بشكل موجز..
المرأة الأولى: امرأة العزيز
قيل اسمها (راعيل)، ولقبها (زليخا)، وهي امرأة الحاكم في عصرها (عزيز مصر)، وقيل إن عزيز مصر كان وزير الفرعون المصري في ذلك العصر.
إن امرأة العزيز مثلت نموذج المرأة التي تستحوذ على المال والجمال والسلطة، ولكنها تستخدم هذه النعم التي أنعم الله عليها بها في محاولة تحقيق مآربها الشيطانية المتمثلة في الخيانة الزوجية وتلبية نداء الشهوة الجنسية، ومع مَنْ؟
... مع نبي الله يوسف الصديق (ع)!
امرأة متزوجة يقودها انحلالها الأخلاقي وبُعدها عن الله لمحاولة إغواء النبي يوسف (ع).. لعلها كانت تعتقد أنها قادرة على الإطاحة بمن لهج لسانه بذكر الله، وخلص قلبه بالإيمان..
لقد وضعت هذه المرأة نبي الله يوسف (ع) في موضع لا يُحسد عليه، ووفرت الأسباب التي من شأنه أن تطيح بإيمان يوسف -حسبما تعتقد-، فهو أولاً في بيتها، بل في حجرتها والأبواب مغلقة بإحكام مما يدل على توفير جو السرية والخفاء، وهما رجل وامرأة في خلوة؛ المرأة في أشد حالات التهيج الجنسي لأجمل شاب رأته عينها، وهي أيضاً سيدته ولها عليه قوة السلطة والمُلك وفضل الاعتناء به في القصر، أما الرجل ففي بداية شبابه، وهو في غرفة لا ريب وأن امرأة العزيز قد جهزتها بالعطر العبق وما يتطلبه الأمر من إثارة الشهوة، كما أنها امرأة فائقة الجمال كما هي عادة نساء الملوك، وقد هيأت نفسها للإثارة والفتنة الجنسية.
ورد عن ابن عباس، قال: ما ملخصه: مكث يوسف في منزل الملك وزليخا ثلاث سنين ثم أحبته فراودته وهي بضع سنين مكثت على صدر قدميها وهو مطرق إلى الأرض لا يرفع طرفه إليها مخافة من ربه. فقالت يوماً: ارفع طرفك وانظر إلي. قال: أخشى العمى في بصري. قالت: ما أحسن عينيك! قال: هما أول ساقط على خدي في قبري. قالت: ما أطيب ريحك! قال: لو سمعت رائحتي بعد ثلاث من موتي، لهربت مني. قالت: لم لا تقرب مني؟ قال: أرجو بذلك القرب من ربي. قالت: فرشي الحرير فقم واقض حاجتي. قال: أخشى أن يذهب من الجنة نصيبي. قالت: أسلمك إلى المعذبين. قال: إذا يكفيني ربي(1).
إنها (امرأة العزيز) تمثل بالنسبة لنا اليوم المرأة التي جعلت من نفسها بضاعة بخسة، وتمثل لنا أيضاً كل ما يمكن لشاب أو شابة أن ينفردا به بعيداً عن الأعين في غرفتهما الخاصة من شاشة تلفاز هابطة أخلاقياً أو موقعٍ إلكتروني ماجنٍ.
ويبقى التحدي قائماً منذ القدم وحتى عصرنا هذا.. كيف تنأ المرأة بنفسها عن طريق الانحراف وتتصف بالحشمة والعفاف؟ وكيف يقوى الشاب على مواجهة المعركة الأخلاقية بقوة التقوى والورع؟
إن تقوى وإخلاص يوسف (ع) لله عز وجل كان السبيل لنجاته من الوقوع في الرذيلة والخروج من الجو الشيطاني الذي حاولت امرأة العزيز استدراجه إليه، ولم يكن مهماً بالنسبة إلى يوسف (ع) أن يختار السجن ويتحمل تشويه السمعة التي حاولت امرأة العزيز بكذبها وكيدها أن تمارسه ضده؛ في مقابل أن ينجو بإيمانه: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33].
لقد كان من نتائج ذلك أن امرأة العزيز جرّت لنفسها ولزوجها -وهو الحاكم على البلاد- العار والفضيحة، وصارت محلَّ سخرية وشماتة من قبل الآخرين، وقُدِح في عقلها، وسقط بذلك اعتبارها وعظمتها الاجتماعية، مع العلم بأنها خسرت مراهنتها ولم تحظَ بمقاربة يوسف، وبذلك لم تطفئ نيران الجنس الملتهبة في داخلها، ولا شك أن حراب الندم قد أصابتها بعد ذلك(2).
وهنا درس موجه لكل من يملك القوة سواء في المال أو الجاه، بأن كل إمكانات القوة المادية لا تنتصر على إمكانات القدرة المعنوية، ولذلك لا غرابة من أن يتحول يوسف بعد ذلك من ضعيف مسجون إلى عالم قادر حاكم على البلاد، إنها هدية يستحقها من الله الذي لا يضيع أجر المحسنين لاجتيازه الابتلاء بنجاح باهر: {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، وأيضاً: {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:56].
إن المرأة إلى هنا -في هذه التجربة- أخذت الطابع السلبي.. لكن باب الرحمة مفتوح للطالبين، والتوبة لمن أراد أن يذوق لطف الله جل جلاله ويستنقذ أمره قبل قدوم هادم اللذات ومفرق الجماعات..
لم ينقضِ بعد دور امرأة العزيز.. لقد ندمت، وقررت التوبة.. فأقرت بحقيقة الأمر: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:51].
وفي توبتها كانت سعادتها في الدنيا والآخرة.. وانتهت قصتها مع قرار التوبة نهاية سعيدة، بأن تزوجها نبي الله يوسف (ع)، وأنجبت له أفرائيم وميشا ورحيمة امرأة نبي الله أيوب (ع). وقد جاء في الرواية عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: استأذنت زليخا على يوسف، فقيل لها: إنا نكره أن نقدم بك عليه لما كان منك إليه. قالت: إني لا أخاف من يخاف الله. فلما دخلت قال لها: يا زليخا ما لي أراك قد تغير لونك؟ قالت: الحمد لله الذي جعل الملوك بمعصيتهم عبيداً، وجعل العبيد بطاعتهم ملوكاً. قال لها: ما الذي دعاك يا زليخا إلى ما كان منك؟ قالت: حسن وجهك يا يوسف. فقال كيف لو رأيت نبياً يقال له محمد يكون في آخر الزمان أحسن مني وجهاً وأحسن مني خلقاً واسمح مني كفاً. قالت : صدقت. قال: وكيف علمت إني صدقت. قالت: لأنك حين ذكرته وقع حبه في قلبي. فأوحى الله عز وجل إلى يوسف أنها قد صدقت وإني قد أحببتها لحبها محمداً، فأمره الله تبارك وتعالى أن يتزوجها(3).
المرأة الثانية: امرأة فرعون
وهي آسية بنت مزاحم، من النساء الأخيار، تزوجها فرعون مصر في زمانها، وارتبط قصتها بنبي من أنبياء الله أيضاً، ألا وهو موسى الكليم (ع).
إن هذه المرأة التي يتوفر لها في قصر الحكم كل ما تتمناه الأنفس من بذخ ورفاهية، وخدم وحشم، وسلطة وجاه، ومال وممتلكات، لم تكن عبدة لكل ماديات الحياة الدنيا ومغرياتها، ولا ذليلة عند أعتى السلاطين، بل خفق قلبها بالإيمان، وانتقت بإخلاص باب الصلاح في قصر الظلم والانحراف.
لقد قدمت هذه المرأة دروساً عظيمة في الإيمان والصبر والحنان، حتى استحقت أن تكون قدوة حسنة يضرب بها المثل على لسان الباري جل شأنه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ...} [التحريم:11].
منذ التقت عيناها بالتابوت الذي حمل موسى (ع) وليداً صغيراً، وهي في كل يوم تزاد إيماناً بعد إيمان، لتتبوأ أعلى درجات الحب الإلهي، وتصبح سيدة نساء عالمها أجمعين، لا في قصر الحكم باعتبارها امرأة الفرعون، بل في إيمانها ومواقفها المشرفة مع نبي الله موسى (ع) وصمودها العظيم في وجه الجبروت الفرعوني.
استخدمت تأثيرها على فرعون للحيلولة دون وقوع أي ضرر على موسى (ع)، فخاطبت فرعون منذ البداية: {لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:9]. وتعددت المواقف في دفعها الضرر عنه (ع)، ففي بعض الروايات أنه كان يلعب بين يدي فرعون وبيده قضيب صغير يلعب به إذ ضرب على رأس فرعون، فغضب غضباً شديداً وتطير منه وقال: هذا عدوي. فأرسل إلى الذباحين. فقالت امرأته: إنما هو صبي لا يعقل، وإني أجعل بيني وبينك أمراً تعرف فيه الحق أضع له حلياً من الذهب، وأضع له جمراً، فإن أخذ الياقوت فهو يعقل. فلما حول جبرئيل يده إلى الجمر قبضها وطرحها في فيه فوضعها على لسانه فأحرقته، فذلك الذي يقول: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي} [طه:27]. فكف عن قتله وحببه الله تعالى إليه وإلى الناس كلهم(4).
آمنت بموسى (ع)، لم يكن يهمها ما عليه زوجها فرعون من كفر وضياع فكري وديني، قررت أن تعبد الله عز وجل ولو سراً، وتتصدق على الفقراء، وتساعد المحتاجين والمساكين.
وعندما اكتشف فرعون أمرها، لم تنهزم، ولم تنكسر، ولم تتأخر في مواجهة فرعون أعتى الطغاة وهي امرأة لا حيلة لها إلا الله جل جلاله؛ واجهته بالصبر والصمود، الذي لا يخص الرجال وحدهم فحسب، بل إن امرأة كآسية هذه إذا وُضِعت في كفة ترجح على كفة يوضع فيها ملايين الرجال من الذين لا يمتلكون الإرادة والصبر والصمود.
واجهت الموت في سبيل الجنة.. ذهبت عن هذه الدنيا شهيدة على يد الطاغوت، لكنها انتصرت بدمها وخلدت مع الخالدين في أعلى عليين.. نعم، نهاية حياتها كانت محزنة من حيث التعذيب والتنكيل حتى استشهدت، كانت نجاتها في التراجع عن إيمانها، لكنها أبت إلا تكون مضرب المثل في الإيمان.
يحكي لنا رسول الله محمد (ص) تلك النهاية للبطلة العظيمة آسية بنت مزاحم، فيقول: وأما امرأة فرعون آسية، فكانت من بني إسرائيل وكانت مؤمنة مخلصة، وكانت تعبد الله سراً، وكانت على ذلك إلى أن قتل فرعون امرأة حزبيل، فعاينت حينئذ الملائكة يعرجون بروحها لما أراد الله تعالى بها من الخير فزادت يقيناً وإخلاصاً وتصديقاً، فبينا هي كذلك إذ دخل عليها فرعون يخبرها بما صنع بها، فقالت: الويل لك يا فرعون، ما أجرأك على الله جل وعلا؟ فقال لها: لعلك قد اعتراك الجنون الذي اعترى صاحبتك. فقالت: ما اعتراني جنون، لكن آمنت بالله تعالى ربي وربك ورب العالمين. فدعا فرعون أمها، فقال لها: إن ابنتك أخذها الجنون، فأقسم لتذوقن الموت أو لتكفرن بإله موسى فخلت بها أمها، فسألتها موافقة فيما أراد، فأبت، وقالت: أما أن أكفر بالله فلا والله لا أفعل ذلك أبداً، فأمر بها فرعون حتى مدت بين أربعة أوتاد ثم لا زالت تعذب حتى ماتت(5).
لقد التجأت إلى الله عز وجل لتعلمنا أهمية الدعاء، {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]. يقول المحقق الأردبيلي بعد ذكر هذه الآية: رفعها الله في الجنة فهي فيها تأكل وتشرب، وقيل إنها أبصرت بيتها في الجنة في درة. {ونجني من فرعون} وعذابه، قيل كان أمر بأن يلقى عليها صخرة عظيمة فدعت الله وانتزع الله روحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه، فلم تجد ألماً من عذاب فرعون، وقيل إنها كانت تربط وتستقبل بالشمس وإذا انصرفوا عنها أطلقها الملائكة وجعلت ترى بيتها في الجنة(6).
اختلفت الروايات في كيفية اغتيال جسدها الطاهر، لكنها أجمعت على عظم تعذيبها ومدى شجاعتها وصمودها، حتى كانت قدوة في الصبر على أذى الزوج، فورد عن النبي محمد (ص): من صبر على سوء خلق امرأته أعطاه الله من الأجر ما أعطى أيوب (ع) على بلائه، ومن صبرت على سوء خلق زوجها أعطاها الله مثل ثواب آسية بنت مزاحم(7).
إنها امرأة كاملة وقدوة رائعة، استحقت الثناء على لسان الأنبياء والأوصياء، وفي حقها قال رسول الله (ص): ثلاثة لم يكفروا بالوحي طرفة عين: مؤمن آل يس، وعلي بن أبي طالب (ع)، وآسية امرأة فرعون(8). وورد عن ابن عباس قال: خط رسول الله (ص) أربع خطط في الأرض، وقال: أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله (ص): أفضل نساء الجنة أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون(9).
المرأة الثالثة: ملكة سبأ
النموذج النسائي الملكي الثالث ليس من القصور المصرية، وإنما من جنوب غربي شبه الجزيرة العربية حيث توجد مملكة عظيمة في سبأ بأرض اليمن، تحكمها امرأة اسمها (بلقيس) بنت ملك كان يحكم اليمن كلها، وكان سبقه أربعون ملكاً من سلالته، ولم يولد له ولد، وكانت بلقيس هذه ابنته الوحيدة، ولذا غلبت على المُلك. واختلف في اسم أبيها هذا، فقيل بنت الملك الشرح أو البشرح أو اليشرح، وقيل بنت الملك الشراحيل أو الشرجيل أو الشرحبيل، وقيل بنت الملك الهدهاد، أو غير ذلك، فلا تهم الأسماء بقدر ما تعنينا الدروس والعبر.
الملكة بلقيس عاصرت زمن نبي الله سليمان بن داوود (ع)، وهي المرأة التي حكت سورة النمل قصتها مع سليمان (ع)، عندما تفقد طيره (الهدهد)، {فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:20-23].
لقد أنعم الله سبحانه وتعالى على بلقيس بنعم كثيرة تتلخص فيما عدَّده الهدهد في الآية الأخيرة، فقد بوأها الله جل جلاله كرسي الحكم، وأعطاها نعماً من كل شيء ولون، وقوله (كل شيء) تدل على الحجم الهائل للنعم التي مَنَّ الله بها على هذه المرأة، وستأتي الإشارة إلى بعض تلك النعم في سياق الحكي عن قصتها، بالإضافة إلى عرش(10) عظيم وصفه الزمخشري وآخرون بأنه كان ثمانين ذراعاً في ثمانين وسمكه ثمانين، وقيل ثلاثين مكان ثمانين، وكان من ذهب وفضة مكللاً بأنواع الجواهر، وكانت قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودر وزمرد، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق(11).. إنه الله الكريم يرزق من يشاء وكيفما يشاء ووقت ما يشاء،؛ سواء لرجل أو امرأة، لصغير أو كبير.
مع كل تلك النعم التي أعطاها الله إياها، إلا أن الهدهد نقل لسليمان وصفاً مهماً ومريعاً للوضع الديني في بلاد سبأ التي تحكمها بلقيس، قال: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:24-26].
إنه الشيطان الرجيم يزين الكفر والخبائث للإنسان، ويجعله يصد عن سبيل الحق والمنهج الصحيح، فتارة يتركه يتيه في ملذات الحياة، وأخرى يقوّي لدى المرء حس التكبر والغرور بالنعمة وطول الأمل، فينسى الله خالق الكون ورب الأرباب يوماً بعد يوم، وربما يجد نفسه يشرك بالله أو يعبد إلهاً غيره.
بالرغم من كل هذه النعم، إلا أن الملكة تاهت عن سبيل الهداية وعبدت الشمس من دون الله عز وجل، وهكذا حال باقي قومها فالناس على دين ملوكهم. ولو عدنا للآيات الكريمات التي احتوت كلام الهدهد، للحظنا أن الهدهد بدأ بوصف النعم ثم تلا ذلك بوصف سجود بلقيس وقومها لغير الله، وكأنه يستغرب كيف أن بعض الناس يتنعمون بنعم الله عليهم في دنياهم، ولكنهم -للأسف- لا يذكرونه ولا يشكرونه على نعمه، بل ربما يكفرون به ويعبدون غيره مثلما فعلت بلقيس وقومها.. أليس الله جل جلاله هو الذي يقرن بين توحيد العبادة وشكر النعمة، فيقول: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل:114]؟
إذاً، نحن أمام طير يصرخ متألماً: لماذا لا يسجدون لمن يقدر على إخراج المخبوء والمستور في السماوات والأرض؟ لماذا لا يسجدون لمن يعلم السر والعلانية؟ لماذا لا يسجدون لله وهو الإله الواحد الذي لا غيره؟ لماذا لا يسجدون لرب كل عرشٍ عظيمٍ؟
هل فكَّر كل رجلٍ وفكَّرت كل امرأة بما آتاها الله عز وجل من نعم كثيرة، فيما هي صرفتها؟ هل شكرت الله على نعمته؟ هل أعطاها الجمال فتعففت أم تبرجت؟ هل أعطاها العقل فتفكرت وتعلمت أم أساءت استخدامه؟ هل أعطاها الصحة والقوة فنصرت الضعيف أم تقوت عليه وآذته؟ هل أعطاها المال فأنفقت منه في سبيل الله أم أسرفت وبذرت؟ هل أعطاها الولد فربَّت أو أهملت؟ أم وأم وأم.. هل سألنا أنفسنا -جميعاً- عن شكر كل نعمة أنعم الله بها علينا؟
مع هذا الخبر الذي ساقه الهدهد لسيده سليمان (ع)، كان لا بد للنبي أن يبدأ مهمته الرسالية في الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك الله، وتقويم المجتمع الكافر ليسلم ويذعن للحق.. على هذا الأساس كتب (ع) لبلقيس وقومها رسالته الموجزة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30-31].
هنا، كيف تلقت بلقيس الرسالة؟ ماذا كان ردها مع نداء الإيمان والتوحيد والتسليم للحق؟ كيف يمكن لها وهي الملكة الآمرة المطاعة أن تتصرف مع مثل هذه الرسالة؟
ستتجلى من هنا بعض صفات بلقيس الذاتية وبعض مواصفات مملكتها.. فبلقيس مذ أن تتلقى كتاب سليمان تجمع أعيان قومها، وتحكي لهم سبب جمعهم بمقدمة بسيطة مهمة: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29]، (كريم) أي كتاب مختوم أو قيّم، تريد من ذلك إعطاء صفة الأهمية لما يحتويه هذا الكتاب الموجز، قدرة خطابية من بلقيس تتبلور في قدرتها على التلخيص والإيجاز في الاجتماعات المهمة دون إضاعة الوقت في الخطب المطولة التي لا طائل منها، كما أن وصفها كتاب سليمان بالكريم فيه دلالة على إعطائها كل شيء حقه وعدم استسخافها لما هو صادر من شخص قد يكون مناوئ لها.
وبعد تلاوة نص الكتاب المرسل من سليمان (ع)، تخاطب بلقيس المجتمعين بعبارة تبين كيفية إدارتها للحكم في البلاد، {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل:32]، إنها لا تنفرد باتخاذ القرارات، لا تؤمن بالديكاتورية والرأي الواحد، بل تركن إلى منطق الشورى ورأي الجماعة.. وقد أرادت الملكة بهذه الاستشارة أن تثبت موقعها في قومها، وأن تلفت أنظارهم إليها، كما أرادت ضمناً أن تعرف مدى انسجامهم وميزان استجابتهم لما تُقدم عليه من تصميم. كلمة (أفتوني) مشتقة من (الفتوى) معناها في الأصل الحكم الدقيق والصحيح في المسائل الملتوية.. فملكة سبأ أرادت بهذا التعبير أن تشعرهم بالتواء المسألة أولاً، وأن يدققوا النظر ويجمعوا الرأي فيها ثانياً، لئلا يقعوا في طريق الخطأ! و(تشهدون) مأخوذ من مادة الشهود، ومعناه الحضور.. الحضور المقرون بالتعاون والمشورة(12). كما أن في ذلك ملاطفة منها لقومها(13).
وردَّ الملأ من قومها: {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل:33]، إنهم يخاطبون ملكتهم بكل أدبٍ وإذعان، وبالرغم من أنهم قالوا رأيهم إلا أنهم ذيلوا كلامهم بأن الأمر في النهاية لكِ أيتها الملكة المطاعة، وتلك دلالة على قوة سلطتها وثقة مستشاريها برأيها، ودرس إلى كل الحكَّام الذين يعشقون الديكتاتورية والتفرد بأن حب الشعب وطاعة القادة والأعيان يأتي من خلال احترام وجودهم والاستماع إلى آرائهم وأفكارهم وإتاحة الفرصة لهم للحوار والمناقشة حتى مع أعلى السلطات في البلاد.
الملكة بلقيس استمعت لمنطق المجتمعين الذين مالوا لفكرة الحرب ومواجهة سليمان عسكرياً، فقد رأوا أن لديها جيش مجهز بالسلاح القوي والمحاربين الشجعان إلى درجة كبيرة جداً.. ولكن بلقيس كانت لا تميل إلى العنف وتقرأ الأمور بعين العقل، فقد عقبت على رأيهم: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34]، ما أروع المرأة التي لا تلهيها أموالها لتقف أمام المرآة طوال النهار أو تتسوق فقط وفقط، ولا تلهيها قوتها وسلطتها على غيرها من خدم أو غيره لتتكبر وترفع صوتها وتسخف رأي من هو دونها.. إننا مع امرأة ثرية وملكة على مملكة عظيمة، تجمع أعيان شعبها لتستشيرهم في أمر دينها ودينهم، تستمع إليهم، وبالرغم من أن رجاحة عقلها تهديها إلى نبذ العنف، فإنها ترد بحكمة ومنطق، فلا تقول لهم إن رأيكم فاسد وغير صالح، وإنما ترد بقوة البرهان والإقناع وتبيان نتائج الحرب، وكأنها تقول لهم: مع احترامي لرأيكم الكريم، ولكن أنتم تعلمون أن الملوك من عادتهم حين يغيرون على قرية معينة يفسدوها بتخريبها وإذلال أهلها..
وهنا صفة أخرى للملكة بلقيس، فهي تتكلم بلسان العارفة والمطلعة على أحداث تاريخية سابقة، وهذا يدلنا على ضرورة ألا يلتهي الرجل أو المرأة بزخارف الحياة فينسى التعلم والاطلاع على الثقافات والتجارب، لأن العلم يهدي إلى الحكمة والرأي السديد، بينما يجر الجهل إلى الحمق وسخف الفكر. كما أن في ذلك توجيه إلى أصحاب المناصب وممن تحتهم رعية، بأن مواصفات المنصب الذي يحمي الرعية ويستشرف مستقبلهم هو العلم وليس عظم النسب أو كثرة المال.
إذاً، ما هو رأي الملكة تجاه كتاب سليمان (ع)؟
قالت: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35]، إنها تؤكد هنا على عدم التسرع في اتخاذ القرارات المصيرية، وانتهاج التعقل بدلاً من الحماسة النابعة من العواطف، لذلك قررت إرسال هدية إلى نبي الله سليمان (ع) لامتحانه والتأكد من هدفه الحقيقي، فإن قَبِل بالهدية فهو طالب دنيا وهدفه الاستيلاء على مقدرات مملكة سبأ، وإن لم يقبل فإنه بالتأكيد صادق في كلامه ودعوته إلى عبادة الله جل جلاله. ولذلك لا بد من اختيار هدية مغرية وعظيمة من شأنها جذب انتباه سلطان كالنبي سليمان (ع).
وفي ذلك قال العلامة المجلسي في بحاره: اختلف في الهدية، فقيل: أهدت إليه وصفاء ووصائف ألبستهم لباساً واحداً حتى لا يعرف ذكر من أنثى، عن ابن عباس. وقيل: أهدت مائتي غلام ومائتي جارية ألبست الغلمان لباس الجواري وألبست الجواري لباس الغلمان، عن مجاهد. وقيل: أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج، فلما بلغ ذلك سليمان (ع) أمر الجن فموهوا له الآجر بالذهب ثم أمر به فألقي في الطريق، فلما جاؤوا رأوه ملقى في الطريق في كل مكان فلما رأوا ذلك صغر في أعينهم ما جاؤوا به، عن ثابت البناني.
وقيل: إنها عمدت إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية فألبست الجواري الأقبية والمناطق وألبست الغلمان في سواعدهم أساور من ذهب، وفي أعناقهم أطواقاً من ذهب، وفي آذانهم أقراطاً وشنوفاً مرصعات بأنواع الجواهر، وحملت الجواري على خمسمائة رمكة والغلمان على خمسمائة برذون، على كل فرس لجام من ذهب مرصع بالجواهر، وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة لبنة من فضة، وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت المرتفع، وعمدت إلى حقة فجعلت فيها درة يتيمة غير مثقوبة وخرزة جزعية مثقوبة معوجة الثقب، ودعت رجلاً من أشراف قومها اسمه المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالاً من قومها أصحاب رأي وعقل، وكتبت إليه كتاباً بنسخة الهدية، قالت فيها: إن كنت نبياً فميز بين الوصفاء والوصائف، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها، واثقب الدرة ثقباً مستوياً، و أدخل الخرزة خيطاً من غير علاج إنس ولا جن، وقالت للرسول: انظر إليه إذا دخلت عليه فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملك، فلا يهولنك أمره، فأنا أعز منه، وإن نظر إليك نظر لطف فاعلم أنه نبي مرسل. فانطلق الرسول بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعاً إلى سليمان فأخبره الخبر، فأمر سليمان الجن أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ففعلوا، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى بضع فراسخ ميداناً واحداً بلبنات الذهب والفضة، وأن يجعلوا حول الميدان حائطاً شرفها من الذهب والفضة ففعلوا، ثم قال للجن: عليَّ بأولادكم فاجتمع خلق كثير فأقامهم عن يمين الميدان ويساره، ثم قعد سليمان (ع) في مجلسه على سريره، ووضع له أربعة آلاف كرسي عن يمينه ومثلها عن يساره، وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفاً فراسخ، وأمر الإنس فاصطفوا فراسخ، وأمر الوحش والسباع والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه ويساره، فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان تقاصرت إليهم أنفسهم، ورموا بما معهم من الهدايا، فلما وقفوا بين يدي سليمان (ع) نظر إليهم نظراً حسناً بوجه طلق، وقال: ما وراءكم؟ فأخبره رئيس القوم بما جاؤوا به، وأعطاه كتاب الملكة، فنظر فيه وقال: أين الحقة؟ فأتي بها فحركها، وجاءه جبرئيل فأخبره بما في الحقة، وقال: إن فيها درة يتيمة غير مثقوبة، وخرزة مثقوبة معوجة الثقب، فقال الرسول: صدقت، فاثقب الدرة وأدخل الخيط في الخرزة، فأرسل سليمان (ع) إلى الأرضة فجاءت فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر، ثم قال: من لهذه الخرزة يسلكها الخيط؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها يا رسول الله، فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر، ثم ميز بين الجواري والغلمان بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم، فكانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به الوجه، والغلام يأخذ من الآنية يضرب به وجهه، وكانت الجارية تصب على باطن ساعدها والغلام على ظهر الساعد، وكانت الجارية تصب الماء صباً وكان الغلام يحدر الماء على يده حدراً، فميز بينهم بذلك.. هذا كله مروي عن وهب(14) وغيره .
وقيل : إنها أيضا أنفذت مع هداياها عصا كانت تتوارثها ملوك حمير، وقالت: أريد أن تعرفني رأسها من أسفلها، و بقدح ماء وقالت: تملاه ماء رواء ليس من الأرض ولا من السماء، فأرسل سليمان العصا إلى الهواء وقال: أي الرأسين سبق إلى الأرض فهو أصلها، وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت وملا القدح من عرقها، وقال: هذا ليس من ماء الأرض ولا من ماء السماء(15). وروي أن بلقيس أهدت لسليمان ستة أسياف وكان ذو الفقار منها(16).
وعلى العموم لا تخلو كل تلك الروايات من مبالغة وتلفيق، وإنما ذكرناها للإطلاع أولاً وللإيحاء بكون تلك الهدية غالية وثمينة. يقول المرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره: لم يذكر القرآن أية هدية أرسلتها الملكة إلى سليمان، لكنه بتنكيرها بيّن عظمتها، إلا أن المفسرين ذكروا مسائل كثيرة لا يخلو بعضها من الإغراق(17).
وبشكل عام فأخبار نبي الله سليمان (ع) مليئة بالمبالغات، ولعل السبب الذي جعل الأساطير تتخلل إليها هو تسخير كائنات كثيرة منها الجن والحيوانات تحت خدمته بإذن الله عز وجل، مما دفع بخيالات القصاص إلى نسج روايات غير حقيقية حول خاتمه أو ما شابه، وفي شأن الروايات الواردة في قصصه (ع) يقول العلامة الطباطبائي: الأخبار المروية في قصصه وخاصة في قصة الهدهد وما يتبعها مع ملكة سبأ يتضمن أكثرها أموراً غريبة قلَّما يوجد نظائرها في الأساطير الخرافية يأباها العقل السليم ويكذبها التاريخ القطعي وأكثرها مبالغة ما روي عن أمثال كعب ووهب(18).
أما جواب سليمان (ع) على امتحان بلقيس، فقد جاء رداً قاطعاً حاسماً، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:36-37].. إنه نبي مهمته الدعوة إلى الحق، ولا تفرحه مغريات الدنيا مهما عظمت وثمنت، فالله عز وجل خير مما أتت به بلقيس، وهنا يوجه (ع) تحذيراً لبلقيس وقومها في حال التفكير بالحرب بمواجهتهم بجنود لا قِبَل لهم بها من شأنها أن تخرجهم من مملكتهم أذلاء مذعنين، فما يهم سليمان هنا هو أن يؤكد للملكة بلقيس أنه لا يرغب بإهانتها أو إذلال قومها أو السيطرة على بلادها، وإنما يريد أن يقول لها إن في ترككم للسجود للشمس وعبادة الله جل جلاله وحده لا شريك له منجاتكم والإبقاء على عزكم، فالدين لا يتعارض مع الغنى.. نعم، فتلك من سنة الله في الأفراد والأمم، فهو سبحانه يُنعم على هذا وتلك، وعلى هؤلاء وأولئك، ولكن دوام النعمة بذكر الله، وإلا {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، ويقول جلت قدرته: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112]. فعلى الإنسان أن يشكر الله على نعمه ولا يكفر بها ولا ينسى ذكر الله فيعمل ما فيه غضبه وعدم رضاه فينساه المُنعم، ويحوله إلى الفقر والذل بعد الغنى والعز.
المهم، أن الملكة يتضح لها من جواب سليمان (ع) أنه داعية حق وليس طالب دنيا، ولذا تقرر الذهاب إليه للتحاور معه والإطلاع أكثر على حقيقة دعوته.. إنها امرأة مع كل ما لديها من قوة ومال، إلا أنها تبحث عن الهداية، ومستعدة للحوار من أجل تحقيق هذه الغاية، فهي لا تريد أن تؤمن بشيء دون أن تتحقق منه، فهي ترفض التقليد العشوائي دون التأكد والبحث والتعلم.
وتستمر القصة بين سليمان والملكة، ويحضر (ع) عرشها إلى عنده بإذن الله، ويعد لها سليمان (ع) امتحاناً لذكائها ومستوى تفكيرها وقابليتها للهداية، ولكي يظهر لها شيئاً من آيات الله التي تدل على صحة نبوته ودعوته: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:41-43]. قوله (أهكذا عرشك): إن هكذا ثلاث كلمات، حرف التنبيه وكاف التشبيه واسم الإشارة، ولم يقل أهذا عرشك، ولكن أمثِل هذا عرشك، لئلا يكون تلقيناً، فقالت: (كأنه هو)، ولم تقل هو هو ولا ليس به، وذلك من كمال عقلها حيث توقفت في محل التوقف(19).
إننا أمام امرأة عاقلة لبيبة تبحث عن الحقيقة؛ تواجه الآية الأولى فتسلم، ثم تنتقل لمواجهة الآية الثانية الدالة على صدق الدعوة والنبوة، {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ...}، والنتيجة أنها تعلن إيمانها بشكل أكثر صراحة: {... قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44].. نعم، فأنا نادمة، فقد ظلمت نفسي حين سجدت للشمس وأعمتني ثروتي وجاهي عن الحق، ولكن بعد هذه الآيات وصدق الدعوة فإني عابدة لله رب العالمين، ربي ورب سليمان وسائر الخلق والموجودات، والطريف هنا أنها تقول: أسلمت مع سليمان، فتستعمل كلمة (مع) ليتجلى أن الجميع إخوة في السبيل إلى الله! لا كما يعتاده الجبابرة إذ يتسلط بعضهم على رقاب بعض، وترى جماعة أسيرة في قبضة آخر. فهنا لا يوجد غالب ومغلوب، بل الجميع -بعد قبول الحق- في صف واحد.(20).
وقيل إن سليمان (ع) تزوجها، وقيل إنه سهل أمر زواجها من ملك آخر. وأختم بهذا النص الذي وقعت عليه في كتاب (الأعلام) للزركلي حول نهاية حياتها: وظهر سليمان بن داود، النبي الملك الحكيم، بتدمر، وركب الرياح إلى الحجاز واليمن، وآمن اليمانيون بدعوته إلى الله، وكانوا يعبدون الشمس. ودخل مدينة (سبأ) فاستقبلته بلقيس بحاشية كبيرة، وتزوجها، وأقامت معه سبع سنين وأشهراً، وتوفيت فدفنها بتدمر. وانكشف تابوتها في عصر الوليد بن عبدالملك، وعليه كتابة تدل على أنها ماتت لإحدى وعشرين سنة خلت من ملك سليمان، ورفع غطاء التابوت فإذا هي غضة، لم يتغير جسمها، فرفع ذلك إلى الوليد، فأمر بترك التابوت في مكانه، وأن يبنى عليه بالصخر(21)، والله العالم.
اضافةتعليق
التعليقات