في زمنٍ فُرض فيه الصمت على الحق، وطمست فيه معالم الدين بعد فاجعة كربلاء، ارتقى الإمام زين العابدين (عليه السلام) بسلاحٍ لا يُقاوم: سلاح العبادة، لم تكن عبادته انسحابًا من واقعٍ مريض، بل كانت ثورة هادئة، تنفذ إلى القلوب وتؤسس لجيلٍ ربانيٍّ تغيّر به وجه الأمة.
لقد جسّد الإمام (عليه السلام) معنى العبودية الكاملة لله، من الوضوء وحتى السجود الأخير، لم يكن يتوضأ إلا وهو يرتجف خاشعًا، وكان إذا قام إلى صلاته لا يُسمع له صوت إلا أنينه، وإذا سجد، طال سجوده حتى يُظن أنه فارق الحياة. وكان كثير الصيام، دائم الذكر، متفرغًا للدعاء والمناجاة.
لكنه لم يكن عابدًا في كهف، بل مربّي أمة، كان يعرف أن أعظم عبادة هي أن تُصلح النفس، ثم تصلح بها المجتمع.
تأثير عبادة الإمام على مجتمعه
1. إحياء روح الخشوع في الأمة:
في زمنٍ غلب فيه الطغيان والترف، أعاد الإمام الحياة للقلوب الميتة. عبوديته لله كانت دعوة مفتوحة للرجوع إلى أصل الدين، وقد تأثّر به كثيرون ممن رأوه في صلاته أو سمعوا دعاءه، فكان مدرسةً صامتة تُربي دون خطابة.
2. الصحيفة السجادية: دستور روحي واجتماعي
لم يترك الإمام عبادةً فردية فقط، بل وثّقها في "الصحيفة السجادية"، فكانت كتابًا يُعلّم الناس كيف يدعون، وكيف يتأملون، وكيف يبنون مجتمعًا قائمًا على التواضع، وطلب المغفرة، والرحمة، والعزة بالله لا بالناس.
3. تربية العبيد والخدم بالعبادة:
كان الإمام يربط العبادة بالمعاملة، فيُكرم عبيده، ويُحسن إليهم، ويعتقهم بعد أن يعلّمهم دينهم. كانت صلاته وسلوكه تخلق مجتمعًا مصغّرًا تسوده الرحمة والمساواة، حتى قيل إن خدمه كانوا يتحوّلون إلى دعاة وعبّاد.
4. المواساة بالعبادة والدعاء:
عاش الإمام في مجتمع محطم نفسيًا بعد كربلاء، فداوى جراح الناس بالذكر والدعاء، علّمهم أن البكاء ليس ضعفًا، بل قوة الروح، وأن الدعاء ليس عجزًا، بل سلاحًا ربانيًا، فصارت مسجده ومحرابه مواطن شفاء للقلوب.
5. التأثير في الوعي السياسي والاجتماعي من خلال الدعاء:
كثير من أدعيته كانت رسائل مشفّرة ضد الظلم، يعلّم الناس فيها أن العدل من صفات الله، وأن الظالم إلى زوال. فكان يدعو في دعائه: "اللهم صلّ على محمد وآله، وانصرنا على من ظلمنا..."، لتبقى روح المقاومة مشتعلة رغم كل القمع.
العبادة تصنع حضارة
عبادة الإمام زين العابدين (عليه السلام) كانت مشروعًا لبناء إنسانٍ متكامل، يعيش لله ويعمل للناس، يخشع في صلاته، ويعدل في سلوكه، ويدعو في محرابه لينقذ أمة.
لقد جعل من كل سجدة بذرة، ومن كل دعاء مشروع إصلاح، ومن كل دمعة صوتًا لا يخفت.
فهل نعي نحن اليوم أن أقوى أدوات التغيير ليست دائمًا الثورة المسلحة، بل قد تكون دمعة صادقة في سجدة، وخلقًا نقيًا في معاملة، وكلمة صبر في لحظة ظلم؟.
اضافةتعليق
التعليقات