يؤمن المسلمون بأنَّ دينهم يصلح كنظام سياسي للحكم، فشريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله جاءت بقيم سياسية واجتماعية واقتصادية متكاملة وبطبيعة الحال تلك الأسس هي ماتحتاجه أي دولة وأي نظام.
إلا أنَّ من حمل هذه الراية سواء قديماً أو حديثاً جعل ذات المسلمين يختلفون في تبنّي النهج الاسلامي بالحكم بل دفع فئة كبيرة منهم بقبول النهج الذي يقف على طرفي نقيض معه ألا وهو طريق العلمانية وفصل الدين عن الدولة.
من تلك الاشكاليات التي جعلت الكثير ينفر من الدين وأهل الدين ويرفض تصدّيهم في السياسة هي قضية سجين الرأي أو السجين السياسي كما يعبّر عنه البعض، حيث تكتظ سجون الكثير من الدول بهؤلاء المعتقلين الذين أصبحوا في مصف المجرمين واللصوص والقتلة، وبات حُكمهم ومصيرهم مشتركا معهم رغم المسافة الشاسعة في التهمة، فالمتهم قد عارض الحكم أو السلطة بمجرد كلمة!، ويبدو أنَّ الرأي يُفسد في الود قضية وفق منظور الحاكم المستبد.
بالطبع تعتبر الكلمات كأزيز الرصاص أو أشد وهي الفتيل الأول لإشعال الثورات ضد الحكومات كما حصل في مايدعى "بالربيع العربي"، ولكن من حق المسجونين _وياما في السجن مظاليم_ بأن تراعي الدولة الضوابط الانسانية معهم وتكون تُهمهم ضمن دائرة المحاكم العادلة.
فالشواهد تكشف أن السجين يتعرض إلى أشد أنواع التعذيب والتنكيل باستعمال طرق لاستنطاقه وبأساليب غير انسانية، فضلا عن مواصفات السجن ذاته والتي تبتعد كل البعد عن الأطر البشرية، والمحاكم هي الأخرى تكون غير عادلة، مع أنَّ المادة (العاشرة) من الاعلان العالمي لحقوق الانسان تُبيّن أنه يجب أن يعرض المتهم أمام محكمة قضائية منعقدة بشكل قانوني وأهم شرط فيها بأن تكون مستقلة وغير مسيسة أو متحيزة لجهة ما.
ومع هذا فجرت منظمة حقوقية خليجية ملف "سجناء الرأي" في دول مجلس التعاون الخليجي، حيث قالت أن عددهم يتراوح من ثلاثين إلى أربعين ألف سجين، بينهم أطباء ومعلمين وكتاب وحقوقيين وسياسيين.
لسنا في مورد الحديث عن مسببات ومدى أحقية كل ثورة وانتفاضة لأنها ليست موضوعنا، ولكن كل ماسبق يدفع المرء للتساؤل، لماذا تدعّي بعض الدول أو الحركات بانتمائها للدين الاسلامي رغم أن النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة ترفع من قيمة الانسان وترفض اذلاله، "ولقد كرمنا بني آدم"، والمؤمن أشرف من الكعبة، والكثير من الشواهد والأدلة تعضّد هذا الأمر.
نقول هنا هي مجرد شعارات دينية زائفة انتهجتها الأنظمة القمعية وجذورها جاءت من الفجوة التي حصلت في الثقافة الاسلامية وذلك بعد النبي محمد واختلاف الأقوام حول أحقيّة من يكون الخليفة بعده رغم تعيين النبي (ص) له في عدة مواضع، وأيضا توالت بعدهم الحكومات التي اعتاشت على شعارات اسلامية.
والدولة العباسية ممن كان لديها قصب السبق في رفع الشعار الديني الذي يخفي وراءه مصالحها في الوصول للحكم، وجرائمهم التي يندى لها جبين الانسانية هي خير شاهد على ذلك، فقد رفعت شعار "الرضا من آل محمد" وادّعت القرابة من النبي لكي تكسب ثقة الجمهور.
لكن الأئمة في ذلك العصر تصدّوا بكل قوة لهذا المنهج الخطير، فالامام الصادق لم يبايع تلك الحكومة ورفض أن يتقلد الخلافة عن طريقهم، والامام الكاظم أودع السجن مظلوماً لأنه استمر على نهج آبائه في نشر الدين الحقيقي الذي يخالف تماما مايدّعيه الخلفاء العباسيين وحارب الحركات الفكرية التي وجدت الحكومة فيها إلهاءً للشعب.
ومع أنَّ التاريخ شهد ملاييناً من سجناء الرأي المظلومين إلا أنَّ الامام الكاظم عليه السلام يعتبر سجين رأي رقم واحد بالمظلومية لأنَّ الحق معه بشكلٍ مطلق، فهو معصوم من سلالة نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله، ومع ذلك بقي سنين عديدة في مطامير السجون مُكبَّلا بالأصفاد غريباً مظلوماً مُعذَّباً بغير ذنب ومن قبل حكومة تدّعي الاسلام!.
وبالرغم من كل تلك الآلام والمظلومية والإمام عاش في السجن ولم يعش السجن فيه كما يقال، وفشلت السلطة في زرع الخوف في قلبه بل كان إيمانه أكبر من الخوف، وكان وكما تقول الحكمة: "أكثر الناس قلقاً في السجن هو السجّان نفسه".
ومن هنا، ومن نظرة متعمقة أكثر، وبإتخاذ الامام الكاظم أنموذجاً في هذه الحالة، نتساءل؛ لما يُصدّق البعض شعارات أولئك المتأسلمين؟
وهل حقاً أنَّ السجن عبارة عن تواطئ قانوني بين السلطة والمجتمع؟
لعل هناك بعض الاختلاف في الإجابة على السؤالين وفق كل عصر وزمن وظروفه.. إلا أنَّ هناك بعض المشتركات ومنها بل أهمها التضليل الاعلامي ومايرافقه من أبواق تخدمه فتتفنن في تشويه صورة ذلك السجين ويقنعون الجماهير بأنه خائن للدين أو الوطن ويستحق الموت والحبس، وهنا نستحضر كيف قال أهل الشام عندما علموا أنَّ الامام علي قُتل في محراب الصلاة، فرددوا ببلاهة واستغراب: وهل كان علي يُصلِّي؟!
وأيضا هناك أمر آخر مهم أيضا وهو سياسة الخوف التي تشيعها وتنشرها الحكومات المستبدة، فلقد كانوا يقتلون على التهمة والظنة بكونه علوياً فكيف بالذين ثبتت جريمتهم!.
ولاننسى أبو الرذائل والأزمات وهو "الجهل"، وهنا نقصد الابتعاد عن نقطة المعرفة، معرفة حق كل انسان، معرفة الشريعة الحقيقية من المزيفة، معرفة الحاكم الصالح من الطالح ومعرفة المعايير التي تحدد ذلك وأهمها هي "إعرف الحق تعرف أهله"..
ومهما يكن من أمر فالتاريخ اليوم يعيد نفسه، فهارون الأمس لايزال يتجسد اليوم والظلم الذي لحق بالامام الكاظم وأتباعه لايزال أيضا قائما، وتسخير الدين لخدمة السياسة هو هو وبطرق عصرية.
وتبقى هنا كلمة تثير الشجون وهي أنّ حق أي سجين في العالم سيعود ومظلوميته ستُرفع بعد أن يلتف الجماهير حوله وبعد أن يسيروا ويؤيدوا نهجه الذي بسببه أودع السجن، وحتى وإن أُعدم ذلك السجين فلن تذهب تضحياته سدىً، وإن خرج فسيكون ملكاً، وكما يقول مانديلا وعن تجربة شخصية له في السجن: في بلدي نذهب إلى السجن أولاً ثم نصبح رؤساء!.
وأمّا مظلومية الإمام فلن ترفع ولن تلتئم جراحه إلا بالسير على نهجه وذلك برفض الظلم ومطالبة الحقوق بالعيش الكريم وبحرية، وبتجسيد القيم الأخلاقية التي دعا إليها الإمام، وبخدمة الناس والمستضعفين، والتصدي للحركات الإلحادية التي قامت في عصره وعادت اليوم مرة أخرى والرد عليها بأسلوبه وبطريقته ومداراته، وبنشر قيمه ومبادئه، وإلا فسنكون ممن وضع القيود على معصميه الشريفتين وأدماها وشارك في حجب النور وراء قضبان السجون!.
اضافةتعليق
التعليقات