عندما يقف الإنسان على لغز الكون، تتدفق ينابيع السلام في ذاته، فتستحيل ظلمة السجن عند ذاك إلى نور، والسلاسل والحديد إلى حرّية، غير أن الروح وهي ما تزال في إهاب الجسد تتوجّع كلّما توجّع وتئنّ كما أنّ فالجسد مظهر الروح والمرآة التي تنعكس فيها أشعة الحياة، وليس هناك ما هو آلم للنفس من السجن.
حينها تتعدى كل حدود الحياة، لما تظن أنك لن تستلم ولو وضعوك بين أربعة جدران لايصلها نور الله، جدران معتمة ظلماء، لاتعلم متى يحين الصباح أو الليل، مغلقة بأبواب لاتفتح، تظن أنك أنهيت حياتك وهنا لامكان لك سوى القبول فيه والرضوخ لتلك الجدران المعتمة.
لكن هناك شخص جعلها روضة من رياض الله فاتخذ المكان مسجداً، إنها رحلة التقرب إلى الله والوصول إلى معرفته لا تختلف من مكان إلى مكان، ولا تتغير من حال إلى حال، بل كلما ضاقت الحياة وعظمت الشدائد وتراكمت المحن ازداد الانسان قرباً إلى الله تعالى، واستعان بالصبر والصلاة.
لقد اتخذ الامام الكاظم (عليه السلام) من السجن مسجداً، ومن وحشة الحبس ووحدته معتكفاً ومأنساً بذكر الله وقربه سبحانه، فنهاره صيام وليله مناجاة وقيام.
فقد روى أحد الذين كلفوا بمراقبة الامام (عليه السلام) في سجن عيسى بن جعفر في البصرة إنه سمع الامام يقول:
(اللهم إنك تعلم أني كنت اسألك أن تفرغني لعبادتك وقد فعلت ذلك فلك الحمد).
ولما رأى عيسى بن جعفر ذلك من الامام كتب إلى هارون الرشيد قائلا، بعد إن قضى الامام (عليه السلام) عنده في السجن سنة:
(خذه مني، وسلمه إلى من شئت والا خليت سبيله، فقد اجتهدت أن آخذ عليه حجة فما أقدر على ذلك، حتى اني لأتسمع عليه إذا دعا لعله يدعو علي أو عليك، فما أسمعه يدعو إلا لنفسه، ويسأل الله الرحمة والمغفرة).
أما العلاقة مع الله، تؤكد لنا كتب التاريخ أن الامام "عليه السلام" عاش بارتباط مع الله "عزّ وجلّ" بأعلى الدَّرجات، فقد كان الله حاضراً في عقله وقلبه، فقلبه دائم بذكر الله تعالى، وحياته كانت للرّسالة كلّها، حيث كان يعيش اللّذّة باللّقاء بالله، ولذلك كان يطيل السجود، فكان يقول "عليه السلام" "اللّهمّ إنّي كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، وقد فعلت فلك الحمد" وكان يكرّر في سجوده: "اللّهمّ إنّي اسألك الرّاحة عند الموت، والعفو عند الحساب".
على الرغم أن الامام "عليه السلام" لم يكن له ذنب يستغفر الله "عزوجل" منه، ولكنّه تواضع لله، اصبح يجلس بين يديه ليعيش كما يعيش العبد أمام سيده.
لذا علينا أن نتعلم من حليف السجدة الطويلة كيف يكون القرب لله تعالى؟
ولنعلم أن مهما ضاقت علينا أمورنا الدنيوية فهي لاتساوي شيئا أمام الضيق الذي عاشه الامام عليه السلام.
فلنتخذه قدوة، ولنهيىء أنفسنا لنكون قريبين من الله عزوجل ونخضع ونخشع بين يديه رافعين أكفنا بالعفو والمغفرة عنا، ونرجو فضله، وأن يحسن ختامتنا ويجعلنا من الموالين لأهل بيته عليهم السلام والثبات على دينهم.
فالسلام عليك ياموسى بن جعفر
السلام عليك ياحليف السجدة الطويلة
السلام عليك باب الله ياباب الحوائج.
اضافةتعليق
التعليقات