إن تركيب العالم الفيزيائي يعتمد بدقة بالغة على الرياضيات، ويمكن معرفة مدى دقة الرياضيات البالغة من خلال وصف أكثر جوانب الفيزياء أهمية، كما في محاضرة شهيرة عام 1960، أشار يوجين فاجنر Eugene Wigner إلى هذا الأمر على النحو الآتي: "التأثير اللامعقول للرياضيات في العلوم الفيزيائية".
وفيما يأتي سرد لقائمة الإنجازات المؤثرة:
الهندسة الإقليدي: تصل نسبة دقتها إلى ما هو أصغر من عرض ذرة الهيدروجين على مدى متر واحد وكما نوقش في المحاضرة الأولى، لا تعتبر الهندسة الإقليدية دقيقة تماما بسبب تأثيرات النسبية العامة ومع ذلك فإنه لمعظم الأغراض العملية، تتميز الهندسة الإقليدية بدقة بالغة حقاً.
الميكانيكا النيوتنية: من المعلوم أن درجة دقتها تصل إلى نحو جزء واحد من 7^10، لكنها ليست دقيقة للغاية ومرة أخرى فنحن في حاجة إلى النسبية للحصول على نتائج أكثر دقة.
كهروديناميكا ماكسويل: تثبت دقتها على نحو جيد على عدد كبير من المقاييس، بداية من أحجام الجسيمات الدقيقة عند تناولها فيما يتعلق بصلتها بميكانيكا الكم، حتى أحجام المجرات البعيدة التي تقدر بمقاييس تبلغ نحو 35^10أو أكثر.
نسبية أينشتاين: يمكن القول إنها دقيقة إلى نحو جزء واحد من 14^10، وهو تقريبا ضعف الرقم في الميكانيكا النيوتنية المعتمدة على نظرية أينشتاين.
ميكانيكا الكم: تُعتبر أيضا نظرية دقيقة إلى حد بعيد وفي نظرية المجال الكمي quantum field theory، التي هي اتحاد ميكانيكا الكم بكهروديناميكا ماكسويل والنظرية النسبية الخاصة لأينشتاين، توجد تأثيرات تصل درجة دقتها إلى نحو جزء من 11^10 وخاصة في مجموعة الوحدات المعروفة باسم وحدات ديراك Dirac units.
ثمة نقطة مهمة تتعلق بهذه النظريات، تتمثل في أن الرياضيات ليست فقط مؤثرة ودقيقة إلى حد بعيد في وصفها للعالم الفيزيائي الذي نعيش فيه، بل إنها أيضا مثمرة للغاية كرياضيات في حد ذاتها وفي الأغلب الأعم نجد أن بعض المفاهيم الأكثر فائدة في الرياضيات تعتمد على مفاهيم مشتقة من النظريات الفيزيائية.
وفيما يأتي نورد بعض الأمثلة لأنواع الرياضيات التي كان الحافز وراءها متطلبات النظريات الفيزيائية:
• الأعداد الحقيقية الهندسة الإقليدية
• حساب التفاضل والتكامل والمعادلات التفاضلية
• هندسة بينية التنامي أو هندسة السمبلكتك symplectic geometry الصيغ التفاضلية والمعادلات التفاضلية الجزئية
• هندسة ريمان وهندسة مينكوفسكي
• الأعداد المركبة
• فضاء هيلبرت Hilbert space
• تكامل الدوال ... إلخ
وكان من أكثر الأمثلة اللافتة للنظر اكتشاف حساب التفاضل والتكامل، الذي طوره نيوتن مع آخرين لتوفير الأسس الرياضية لما نطلق عليه الآن الميكانيكا النيوتنية.
وعندما كانت تطبق هذه الأنواع المتباينة من الرياضيات فيما بعد على حل المسائل الرياضية البحتة فقد أثبتت أيضا أنها ذات فائدة قصوى بوصفها رياضيات في حد ذاتها.
في وصفنا للفيزياء الأساسية، ذكرت الحقيقة المثيرة المزعجة المتمثلة في أننا نستخدم أسلوبين مختلفين تماما لوصف العالم، اعتماداً على حديثنا عن نهاية الأشياء هل سيكون من منظور واسع أو من منظور ضيق.
إننا نستخدم ميكانيكا الكم لوصف مستوى النشاط الكمي الصغير، ونستخدم الفيزياء الكلاسيكية لوصف الظواهر على نطاق واسع. وقد أشرت لمستويي النشاط هذين باستخدام حرف U عند المستوى الكمي، للتعبير عن وحدة النشاط الكمي Unitary و C للإشارة إلى المستوى الكلاسيكي وقد سبق وناقشت الفيزياء من منظور واسع في الفصل الأول مؤكداً أن لدينا قوانين مختلفة تماماً على نطاقي العالم الواسع والضيق لآخر وهما يسقطان معاً، إن وجهة نظر أغلب الفيزيائيين هي أنه إذا كنا قد فهمنا فيزياء الكم على نحو مناسب فسيصبح باستطاعتنا استنتاج الفيزياء الكلاسيكية منها. من ناحية أخرى، سيتم معالجة الأمر بصورة مختلفة، ولا نستطيع أن نفعل ذلك عملياً؛ فنحن إما نستخدم المستوى الكلاسيكي أو المستوى الكمي، وهذا الوضع يشبه إلى حد بعيد الطريقة التي كان اليونانيون القدماء ينظرون بها إلى العالم فمن وجهة نظرهم، هناك فئة واحدة من القوانين تُطبق على الكرة الأرضية، وفئة مختلفة من القوانين تطبق على السماء وكانت قوة وجهة نظر جاليليو ونيوتن هي التي أتاحت لنا أن نجعل هاتين الفئتين من القوانين تعملان معا وأن نرى أنه يمكن فهمهما عن طريق الفيزياء نفسها ويبدو الآن أننا نعود إلى الوراء إلى موقف مشابه لليونانيين في ظل وجود فئة واحدة من القوانين تطبق على المستوى الكمي وفئة أخرى للمستوى الكلاسيكي.
لقد وضعت أسماء نيوتن وماكسويل وأينشتاين داخل الإطار المعنون بـ «المستوى الكلاسيكي»، بالإضافة إلى كلمة «حتمي» لا أقصد أنهم كانوا يعتقدون، على سبيل المثال، أن الطريقة التي يسلكها العالم طريقة حتمية فمن المنطقي تماما افتراض أن نيوتن وماكسويل لم يمتلكا هذه الرؤية مع أنها كانت لدى أينشتاين وتشير الكلمتان «حتمي» و «قابل للقياس» إلى نظرياتهم فقط وليس إلى ما كان يعتقده العلماء حول العالم الواقعي.
وفي الإطار المعنون بـ «المستوى الكمي»، عمدت إلى تضمين الكلمتين «معادلة شرودنجر» وأنا على يقين أن شرودنجر لم يكن يعتقد أن الفيزياء بأكملها توصف بالمعادلة التي نسبت إليه وبعبارة أخرى، ثمة اختلاف تام بين الأشخاص وبين النظريات التي نُسبت إليهم والآن هل يوجد حقا هذان المستويان المختلفان؟
نطرح السؤالين الآتيين: هل الكون محكوم بدقة بقوانين ميكانيكا الكم وحدها؟
وهل نستطيع تفسير الكون بأكمله من خلال ميكانيكا الكم؟
لتناول هذين السؤالين يتعين أن تقول شيئاً عن ميكانيكا الكم، ولكن دعوني في البداية أعرض عليكم قائمة موجزة لبعض الأشياء التي يمكن لميكانيكا الكم أن تفسرها:
• استقرار الذرات: قبل اكتشاف ميكانيكا الكم، لم يكن مفهوما سبب عدم اتخاذ الإلكترونات داخل الذرات طريقا حلزونياً إلى النوى الخاصة بها، كما ينبغي عليها أن تفعل طبقا للوصف الكلاسيكي التام، حيث ألا يجب تكون هناك ذرات مستقرة من وجهة النظر الكلاسيكية.
• خطوط الطيف: أدى وجود مستويات الطاقة المكممة في الذرات والانتقال فيما بينها إلى نشوء خطوط الانبعاث التي نلاحظها بأطوال موجية محددة بدقة.
• القوى الكيميائية: القوى التي تمسك الجزيئات معا هي قوى ميكانيكية كمية لآخر وهما يسقطان معا، ستتماما بطبيعتها.
إشعاع الجسم الأسود: يمكن فهم إشعاع الجسم الأسود فقط إذا كان الإشعاع نفسه مكمماً.
• مصداقية الوراثة: يعتمد هذا على ميكانيكا الكم عند المستوى الجزيئي للـ DNA .
• أشعة الليزر: يعتمد عمل أشعة الليزر على وجود انتقالات كمية محفزة بين الحالات الميكانيكية الكمية للجزيئات وعلى طبيعة ( بوز - أينشتاين ) Bose - Einstein الكمية للضوء .
• الموصلات الفائقة superconductors والموائع الفائقة -superflu ids: هذه الظواهر تحدث عند درجات حرارة منخفضة جداً وتكون مصحوبة بمعاملات ارتباط كمية طويلة المدى بين الإلكترونات (والجسيمات الأخرى) في المواد المختلفة.
بعبارة أخرى تُعتبر ميكانيكا الكم منتشرة إلى حد بعيد حتى في إطار الحياة اليومية، كما تُعد المحور الرئيسي لمجالات عديدة للتكنولوجيا المتقدمة، بما في ذلك أجهزة الكمبيوتر الإليكترونية.
أيضاً، فإن نظرية المجال الكمي – وهي اتحاد ميكانيكا الكم مع النظرية النسبية لأينشتاين – نظرية جوهرية لفهم فيزياء الجسيمات وكما سبق وذكرنا، فإن نظرية المجال الكمي معروفة بأنها دقيقة لما يصل إلى نحو جزء واحد من 11^10وتشير القائمة السابقة إلى مدى روعة ميكانيكا الكم وتأثيرها القوي.
في ميكانيكا الكم لا نهتم بشدة بأحجام الأعداد في حد ذاتها كما نهتم بنسبها وهناك قاعدة في ميكانيكا الكم تتيح لنا ضرب الحالة في عدد مركب معين دون تغيير الوضع الفيزيائي (ما دام ذلك العدد المركب لا يساوي الصفر).
فإن نسب هذه الأعداد المركبة هي فقط التي تنطوي على معنى فيزيائي مباشر، وعندما يختزل متجه الحالة ننظر إلى الاحتمالات، ومن ثم يكون المطلوب حساب نسب تربيع المقاييس. لكن إذا كنا سنظل عند المستوى الكمي فسنستطيع أن نأمل أيضا في إيجاد تفسير لنسب هذه الأعداد المركبة نفسها حتى قبل حساب مقاييسها.
اضافةتعليق
التعليقات