اعتزل الطلاب بركنهم المضطرب من وحي أنفسهم وأخذ كل منهم يسحب شهيقا عميقا يصحبه توترا تاما ثم يطرحه زفيرا مرتجفا بينما تتوزع أوراق الإمتحان النهائي، بدأت أصوات الأقلام تظهر شيئاً فشيئا والأنفاس تتسارع في الوقت الذي أغلب الطلاب تقريبا إن لم يكن الجميع يترقب السؤال الأول لإمتحان اللغة العربية، ذلك السؤال المعتاد الذي يخفف عنهم وطأة التوتر، سؤال التعبير الذي قد حفظ الطلاب أنه من بين ثلاث سيأتي تعبيرا قد حفظوه إما علم أو وطن وكلاهما مكمل للآخر فما الوطن دون العلم إلا أشلاء مقطعة، لكن ماعرف أي من الطلاب ماهية التعبير الذي كتبوه فهو كان مجرد تعبير قد حفظ عن ظهر قلب لكن هل تساءلنا يوماً عن ماهية العلم؟
في الوقت الذي نعيش فيه اليوم نجد الناس على أصناف، كل صنف منهم يعبث في دنياه إلا صنف قد اصطفاه الله أن يكون مؤمنا فلا تغره الدنيا بما فيها، بينما قد غزى الأغلب ثالوث قاتل من (الجهل والفقر والمرض)، تفرع كل منها إلى أجزاء وحطم أحشاء الخليقة حتى شهد عصرنا تجرداً من مفاهيم الحكمة ورداء الموعظة مرتديا عالم مرقمن من الوهم الغامض، مبتعدين عن العلم كل الابتعاد باحثين عن أقصر الطرق جهلا وعصيانا لمكسب ظنوه دائما، بينما الحقيقية التي غابت عن أعينهم إنما لكل من وسائلهم تلك حد تقف عنده وتوقف عقولهم لديه، وهنا يكمن دور العلم فهو الوسيلة الأكثر نجاحا للقضاء على الثالوث القاتل، إذ أنه بالعلم يمكن التخلص من الفقر والبطالة ويخلص المجتمع من الأكاذيب والتضليل، ويكسبه طريقة ناقدة لمعرفة حقائق الأمور التي يصير إليها العالم أجمع.
العلم في نهج إمام العارفين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (فَبَادِرُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِ تَصْوِيحِ نَبْتِهِ)، فلا يخفى علينا أن العلم مفتاح كل خير، لما له من أهمية كبيرة في الوصول إلى الكمال، فالإنسان العالم يرى الأمور غير الذي يراها الجاهل والعلم لا يقف عند حد معين ولا هو محصور بالدراسة الأكاديمية إنما هو حياة بكاملها وبشتى مفاصلها، لذا أكد الإمام (عليه السلام) على أهمية العلم، وقال: (بادروا) والمبادرة تعني المسارعة والتعجيل لأهميته، ولعل الإمام (عليه السلام) يقصد بالمبادرة هنا كناية عن ذهاب رونقه، أو عن اختفائه بفقدانه (عليه السّلام)، لأنه رافد أساسي للعلم الإلهي بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ونبه (عليه السلام) أنه لابد من أخذ المبادرة في تحصيل العلم وأخذه من منابعه السليمة، المتمثلة بمحمد وآل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)، ويمكن أن يحمل هذا النص المبارك إشارة إلى أن طلب العلم وتحصيله منذ الصغر بصورة صحيحة كالنقش على الحجر أي يترسخ في الذهن ترسخا ثابتا ولا يمكن بعد ذلك زواله، كما في قوله تعالى ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم﴾، أي الذين ثبتوا العلم ورسخوه لذلك كان تنبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) هو أن يتم ترسيخ العلم منذ نعومة أظافر الإنسان كالنقش الذي يرافقه وهو على عكس نهج أغلب التائهين في العالم الرقمي الذين ينظرون إلى أن المال هو أساس كل شيء.
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ وهذه الآية بإطلاقها تشمل جميع أنواع العلوم والمعارف التي تجعل من ذات الإنسان ترتقي إلى مراتب عليا تجعل الإنسان بمنأى عن الثالوث القاتل وأيضا يذكر عز وجل ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ وهنا يطرح القرآن الكريم قضية تحكم فيها الفطرة السليمة، هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ شيء طبيعي أن وجدان الإنسان وفطرته تقول بأنه لا، لا يستوي.
إذن القضية قضية وجدانية يحكم فيها الوجدان، وعلى هذا سائر الآيات القرآنية التي تحدثت عن عظمة العلم، ونحن عندما نرى أن القرآن يثني على العلم وعلى العالمين يجب أن نعتبر العلم قضية ضرورية بالنسبة للإنسان، وإنه ليس غاية، بل وسيلة من الوسائل التي سخرها الله لمنفعة عباده لذلك هو خير الوسائل الموصلة إلى الغاية، فالإنسان عندما وجد في الحياة الدنيا فله غاية، ولا يجب أن يعيش تائها لا يدرك مستقره ولا يبصر سوى نور شاشة هاتفه المؤقت، وكأن نور الدنيا والآخرة قد وضعت عليه غشاوة بإرادته حينما أعرض عن العلم الذي هو حياة القلوب من الجهل، وضياء الأبصار من الظلمة، وقوّة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منازل الأخيار ومجالس الأبرار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، به يطاع الربّ ويعبد، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام، العلم إمام العمل، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء، فطوبى لمن لم يحرمه الله منه حظّه.
اضافةتعليق
التعليقات