في لقاء صحفي بثته إحدى القنوات الفضائية، أثارت شجوني تلك المرأة الستينية وهي تتحدث عن صبرها عند استقبالها جثامين أبناءها الشهداء الثلاثة وهي حريصة على رعاية أيتامِهم، وتطلب من الله أن يرزق ابنها الرابع الشهادة لتتساوى مع أم البنين في القرابين التي قدمتها لله في نصرة الإمام الحسين (ع)..
وهي تقول إن ثورة الحسين هي ثورة الأحرار، ولن تخمد نار الثورة ونحن سهام الحرية في عيون الطغاة وفكرهم اللاانساني، لأننا نسير على خطى سيد الأحرار الإمام الحسين "عليه السلام" ودعوته لتحرير الناس من الظلم والجور والعبودية. فالثورة مستمرة حتى ظهور الإمام المهدي. "عجل الله فرجه".
وفيما يبدو أن هذه المرأة وكثير من أمهات الشهداء بصبرهن وتفانيهن في حب الوطن والدين وصلن إلى مرحلة الإطمئنان النفسي في طلب رضا الله وعدم الإلتفات إلى مايورث الهم والغم، واختلفن مع نظيراتهُما الأمهات الثكالى اللواتي فقدن الصبر ولم يتقبلن أمر الله ودخلن في انتكاسة من الحزن والكآبة، بسبب فَقْد أبنائهن.
فلا راحة حقيقية للقلب إلا عند ذكر الله وتقبل البلاء والصبر عليه. وعاهدن تلك النسوة العقيلة زينب "عليها السلام" في الصبر والتحمل وحضن أيتامهن كما فعلت قدوتهن بنت الزهراء "عليها السلام" عند استشهاد أخوتها وأبنائها وبقية الصحابة في معركة الطف الخالدة.
وأيقنت تلك النسوة أن دار الدنيا ماهي إلا دار ابتلاءات واختبارات وأن المؤمن الذي يستثمر البلاء في جهة الانقطاع إلى الله تعالى لا يستوحش من البلاء فحسب بل يرحب بمثل هذا البلاء الذي يسوقهُ نحو مولاه سوقاً حثيثاً. وهذا السبب في عدم اضطراب سرِ الأولياء في أحلك الظروف بل هذه المقامات والحالات التي لا يستوعبها أهل الدنيا إلا من اختصه الله بالفوز والدنو من رضاه.
فلابد من الرضا بقضاء الله وقدره والأخبار الواردة في الحث على الرضا أكثر من أن تعد وتحصى فمنها الحديث القدسي المشهور أن الله تعالى يقول: "لا إلله إلا أنا من لم يصبر على بلائي، لم يرض بقضائي، فليتخذ رباً سواي". (البحار ١٣٢/٧٩).
المرأة العراقية كانت ولا تزال وستبقى صاحبة المواقف المتقدمة في التصدي والنضال وبذل أغلى التضحيات فداء للوطن ودفاعا عن استقلاله وسيادته وكرامة أبنائه فهي المرأة الصامدة صمود الجبال هي أم الشهيد وبنت الشهيد وهي زوجة الشهيد وأخت الشهيد وقبل كل ذلك المدرسة الوطنية الأولى التي يعود لها الفضل في تخريج المجاهدين الأبطال الذين يسطرون أروع ملاحم الصمود والتضحية ويقدمون في مختلف ميادين الشرف والبطولة دروسا عظيمة في كيف يكون حب.
كما هو حال أمهات ثورة تشرين الثكالى حين يسقط ابنها شهيداً تكمل مسير الثورة وتنزل الساحة بدلاً من صوت أبنها. مؤكدات أن أبناءهن ليسوا أغلى من تراب الوطن، وأنهن أصبحن يتوشحن بوشاح العزة والكرامة، وكان لقب «أم الشهيد» أعظم تكريم لهن، الذي لم ينلنه إلا بالصبر والاحتساب عند الله تعالى.
ولعل أسمى وأروع العطاء هو عطاء الأم التي تستقبل فلذة كبدها وهو محمول على أكتاف الرجال فداء للوطن وتخرج بكل فخر وشموخ لاستقباله بالزغاريد والطلقات النارية في الهواء، وكأنها تزفه إلى عروسه.
زينب هي قدوة المرأة الواعية
أعطت السيدة زينب دروسا لكل نساء العالم في الإيثار والتضحية وحب الوطن. وهذا ما أثبتته السيدة في المواقف كلها على اختلاف الأماكن التي حلَّت بها وتعدُّد الشخصيات المعادية لها التي ناظرتها. فإذا فكَّرنا في الوقت الذي دار فيه ذلك الحوار ومقدار الحزن الذي كانت تعيشه العقيلة عليها السلام عرفنا قوة شخصيتها وشدّة شعورها بالمسؤولية، فكل كلمة وكل تصرف لابد أن تحسبَ حسابَه فهي الآن منْ يمثلُ أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرا، وهو الراسخ في الأذهان بشهادة الله تعالى في محكم القرآن (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا). وعدم الخوف من الظالمين كالشمر بن ذي الجوشن، وعمر ابن سعد، وابن زياد ويزيد بعد نهاية الواقعة، على الرغم من فقدان الناصر لها سوى الله تعالى، فلقد نقلت لنا المصادر تقريع السيدة للظالمين وعدم الخوف منهم ومخاطبتهم بما يبيِّن أصولهم الخبيثة وما حملته من عار وجنته مواقفهم ومواقف أسلافهم على الإسلام. المعروف ببطشه وقسوته ما دلَّ على ذلك وأفصح عن شجاعة منقطعة النظير، وقبله قرَّعت شرار أهل الكوفة، بمثل قولها: ((هل فيكم إلا الصلف، والعجب، والشنف، والكذب، وملق الإماء وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة، أو كفضة على ملحودة، ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، أتبكون أخي؟! أجل والله فابكوا فإنكم أحرى بالبكاء فابكوا كثيرا، واضحكوا قليلا، فقد أبليتم بعارها، ومنيتم بشنارها، ولن ترحضوا أبدا)).
لقد امتلكت العقيلةُ أدواتِ الإعلامي المتمكِّن الذي يحارب بكلمته المشفوعة بالقوة والعزيمة والحجة القويمة والوقفة الثابتة الكريمة؛ مع رزانة وأدب، وامتلاك لبلاغة الخطب، تنجلى بها الحقائق بالأدلة الدامغة التي خبرها المستمعون، وآمن بها المخاطبون؛ لترفع النقاب عن التعتيم، وتذيق أعداءها السم القاتل الأليم، من خلال فضح ألاعيبه وإظهار صورته التي حاول إخفاءها ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وهي رسالة لكل انسان ولكل النساء بصورة خاصة ترسم الطريق أمام كل من سلك سبيل الحرية والكلمة الأبية، فهو وإن امتلأ أشواكا لكنه بلسم لجراح الكرامة والعزة والشهامة. وأن الظلم لابد ان ينجلي وينكشف نور الحق ولو بعد حين.
تعلمنا من السيدة زينب الصبر هو مفتاح النصر. والتأسِّي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني التأسِّي بأهل بيته الطيبين الطاهرين فهم منه وهو منهم، ولما كانت نساء أهل البيت خيرة النساء دينا وعلما وأدبا وخلقا. فأولى بنا أن نتعلم من جبل الصبر في تصديها لأشرار الفئة الحاكمة والمتسلطة في زمان عصرها.
المرأة العراقية المؤمنة الأصيلة الأبيَّة اتخذت من سيرة العقيلة زينب قناديل تنير لها أهداف القضايا الجديدة التي طرأت على البلد مؤخراً فكانت نبراساً في صبرها ودورها الكبير الرسالي. حيث شجَّعت النساء رجالهن على الدفاع عن الوطن والمقدسات، سواء أكانوا أزواجا أم أولادا أم إخوانا في جميع نكبات الوطن والحروب.
وتعلمت المرأة العراقية من أن الحوادث الجسيمة تصنع العظماء وتوضِّح معادن الناس، وتبرز الإرادات القوية، فيحتاج المجتمع المتصدي للنوائب لجهود الجميع ليستطيع الخروج من الأزمات وهو قادر على تخطِّيها بالشكل المشرِّف، فنهضة الإمام الحسين احتاجت دم الإمام الحسين وأهل بيته وأنصاره ولسان السيدة زينب الفصيح البليغ وشدته وحكمة الإمام السجاد وقوة حجته. تعلمت أن لا تهتز أو تنهار أمام النوائب بل تجعل التعامل معها طريقا يربط الدنيا بالآخرة وسبيلا يمحِّص إيمانها ويمنحها فرصة تطبيق ما آمنت به وتحويله منهج حياة.
ومن تمسك بهم لا يضْل ولا يشقى. فكما احتاج العراق في معركته العادلة ضد الإرهاب إلى بسالة الأبطال وجهادهم، احتاج إلى ومواقف النساء وثباتهن. فتحمُّل المسؤولية لا يتجلى بحمل السلاح وحسب بل يعضده بالحفاظ على استقرار المجتمع من خلال ملء الفراغ الذي يتركه الرجال وتربية الأولاد والمحافظة عليهم، وتحصين المجتمع من كل ما يمكن أن يخترق أمنه وسلامته ويزعزع استقراره.
وراء قوافل الشهداء نساء عظيمات صنعن التاريخ وغيرن مجرياته.
اضافةتعليق
التعليقات