كان سؤالا بسيطا اطرحه على نفسي (اختاري اي طريقة تفضلين)..
كان يعطيني حرية الاختيار بنوعية موتي، كان الحبل معلقا بشكل مرتب وتحده اركان ناصعة، كل شيء كان يجعلني اتشبث اكثر بالحياة، لكن كان هناك طريق اخر يجعلني لا التقط نظراتي الاخيرة واتحسر.
كان طريقا اسرعا ينقلني نحو السماء، نعم انها المقصلة، على يمين المشنقة كانت هي خيارا اضافيا لمن يخشى سكرات الموت، تقدمت الى الامام وخطواتي ساق نحو اليمين وساق نحو الشمال تطالب بآخر النظرات، ياليت هناك معجزة تخرجني مما انا فيه، وانتصرت في معركة النهاية المقصلة فأنا اخشى النظرات الاخيرة، لما مر بي سابقا كانت النظرة الاخيرة نحو ابي وهو يتلفظ انفاسه بعد ان قتل، فخسرت معه الامان، ثم نظراتي نحو امي وهي تتبعه فتصد الرصاص بجسدها الفولاذي الذي جعلته الرصاصات مجرد دمية لاتقوى على التنفس حتى..
كانت من اقسى اللحظات التي مرت علي، خشيت ان اعيد التجربة من عين المذبوح فأرى روعة الحياة حين المغادرة، اخشى والحياة لاتود التشبث بي، اقتربت اكثر انا وردائي الطويل وهو يجمع معه غبار الموت، ومازالت عيناي تبك الوحدة فالنقاب معتم جدا، يال دولتهم القاسية وحكمهم الجائر، كانت لحظة حاسمة ظننتهم سيقودوني نحو المقصلة لكن شاءت الاقدار ان اتلفظ انفاس الموت شيئا فشيئا..
مابين الطريقتين كانت حفرة عميقة انزلوني بها لأتابع موتي على اقل من مهلي، بدأوا برمي حجارة صغيرة فتتبعها اكبر قائلين كلمة (كافرة) واي كفر لااعلم هل الكفر بين اثنين لديهم (اما جسد او موت) ربما الان عرفت السبب، لما لم يجعلوني انظم لبقية سباياهم او هي احكامهم الجاهلية، نعم انها الحروق في جسدي الهزيل الذي لايقوى على خدمتهم او طاعتهم فقرروا قتلي بحجة الدين والكفر!.
ترامت علي الحجرات بشكل رهيب والدماء خضبت عيني واغمضتهما وتلفظت الشهادة: (اشهد ان لااله الا الله وان محمد عبده ورسوله واشهد ان علي ولي الله) فساد السكون الاجواء وتوقفت الحجارة، كانت لحظة اشبه بالسعادة والحزن، هل غادرت الحياة ومت ام انني فقدت الاحساس بجسدي المخضب، ثم دوت مسامعي الرصاصات المتتالية، فتحت مقلتي ليستقبلها الغبار، هل اصرخ النجدة ام استمر بالصمت فحتى صوتي كانوا يعتبرونه عورة.
من بين الغبار ظهر شخص امامي، رجل ذو هيبة، ارتعبت، هل سيقطعون رقبتي، انتبهت لردائه وسماره انه سمار عراقي تلوح من ملامحه الشجاعة اقترب نحوي قائلا: (لاتخشي شيء فنحن الان هنا من اجلكم) بدأ بإبعاد الغبار بيديه واخرجني، مثلت امامه بجسد منهوك متعب، شهقت الألم، كأنه وطني، وقف امامي قائلا: (ماعاش من يمد يديه عليكم) دون ان اعي بكيت حتى فقدت الشعور ولااعلم ماحدث بعدها..
استفقت بعد فترة، لم اكن اعِ كم ساعة مرت لكن قد كنت في حجرة يتسللها الضوء ونسيم بارد رغم الشمس الحارقة وضيق الغرفة، فزع ذات المنقذ نحوي (هل استيقظتِ) كان يحمل بين دفتي يديه كأس ماء روى ظمأي من الامان والعطش كانت جراحي كلها قد ضمدت، تنفست السعادة انه وطني وهؤلاء هم اسود الرافدين وابناء علي..
مرت عدة ساعات ثم تقدم نحوي مرة اخرى طالبا مني الوقوف فالمكان لم يعد امنا والعجلات اتت لمساعدتي لتقودني نحو احضان البلاد مرة اخرى، اقتربت العجلات فرأيته يسجد ارضا ويطلب مني الصعود على ظهره فالعجلة عالية وجسدي منهك وهو لايستطيع الامساك بي، غادرت تلك الارض ولكني فقدت شيئا لم تكن روحا لقد كان قلبي..
لم يكن من السهل العودة لذاتي التي فقدتها، ولكن الاصعب كانت الثقة، كنت اجوب الشوراع وانا اتلفت يمينا يسارا، حتى الطفل بت اخشاه، لعل صعوبة الاندماج في المجتمع من جديد هي اكبر المخاوف، ستمر الايام والسنين تطوي الدفاتر على اصوات كتمان واشخاص فقدوا طعم الامان الداخلي وتمضي الايام..
من اثر الحرب التي وصلت ذروتها وماتزال مستمرة في بعض المناطق هناك نساء واطفال اصبحوا في رهبة وكابوس مستمر يصعب التخلص منه وان تخلصنا من تلك المجموعة المستبدة ودولة الجهل، وخاصة ممن تعرضن لتجربة النزوح والعيش في المخيمات او اللواتي يعشن تجربة فقدان افراد العائلة او المعيل واللاتي حكم عليهن احكام الجاهلية..
شابات لم يتجاوزن العقد الثلاثيني، اليوم لديهن المخاوف نفسها من المجهول حتى بعد التحرير بتن يظهرن عدم قدرتهن على اعالة اطفالهن ممل جعل ذالك اكثر ما يصيبهن بالحزن، وسط دور ضعيف للمؤسسات الحكومية الاجتماعية، وتفاعل مخجل من قبل مجالس محافظاتهن ..
ورغم التحرير وبداية عودة الحياة الى وتيرتها الطبيعية بدأنا نبصر المجتمع يضيق على النساء اكثر من ذي قبل وبالذات المجتمعات التي تعرضت للانتهاك والسيطرة من قبل المجموعة التكفيرية التي بدأت تظهر علامات تفكيرهم على عقول الشباب ..
اعتقد ان الناس ستتغير، ولكن ثقافة العيب مازالت موجودة، وتحاصر النساء بقوة اليوم، فتراهن يبتعدن عن كل ماهو مريب حتى انفسهن بدأن يخشينها، بلدنا بدأ يمضي ادراجه نحو الجاهلية..
رغم ان المرأة قد احتلت مكانة مرموقة في الإسلام واستأثرت باهتمام خاص في الذكر الحكيم، وفي خضَمِّ تلك الافكار الطائشة في المجتمع الجاهلي نجد القرآن الكريم يصف المرأة بأنّها أحد شطري البنية الإنسانية ويقول: (يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَر وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) ( [836]) فالأُنثى مثل الذكر يشكلان أساس المجتمع دون فرق بينهما.
اضافةتعليق
التعليقات