في جلسات الصديقات، وبين ملامح الحسرات، وعند الشدائد، وحتى عندما نقرأ عن أصحاب الأئمة سابقا وكيف يلتقون بهم، نشعر بألم مع غبطة لأولئك الأصحاب كيف يجلسون ويتسامرون مع الإمام، ونحن نعاني من غيبة إمامنا وطول الأمد، لكن لو عدنا إلى عصور الأئمة وقرأنا عن ملامح عصرهم سنجد أن هناك عدد كبير لم يكن يعرف إمام زمانه بسبب السلطة الحاكمة آنذاك، كما لا يستطيع الإمام التواصل مع شيعته خوفا عليهم من القتل فلقد شدّدت السلطات في المراقبة على الشيعة بعد استشهاد الإمام الصادق (عليه السلام) وعمّ الارتباك أوساطهم وشحنت الأجواء بالحذر والتحسّب.
وعن هذه الفترة الزمنية المهمة في التاريخ الشيعي يحدّثنا هشام بن سالم أحد رموز الشيعة قائلاً: "كنا في المدينة بعد وفاة أبي عبد الله (عليه السلام) أنا ومؤمن الطاق (أبو جعفر) والناس مجتمعون على أنّ عبد الله (الأفطح) صاحب (الإمام) بعد أبيه، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق، والناس مجتمعون عند عبد الله وذلك أنهم رووا عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أن الأمر في الكبير ما لم يكن به عاهة) فدخلنا نسأله عمّا كنا نسأل عنه أباه، فسألناه عن الزكاة في كم تجب؟ قال: في مئتين خمسة، قلنا: ففي مئة ؟ قال: درهمان ونصف درهم(١) .
قلنا له: والله ما تقول المرجئة هذا فرفع (الأفطح) يده إلى السماء، فقال: لا، والله ما أدرى ما تقول المرجئة!
قال: فخرجنا من عنده ضُلاّلاً، لا ندري إلى أين نتوجه أنا وأبو جعفر الأحول(٢) ، فقعدنا في بعض أزقّة المدينة باكين حيارى لا ندري إلى من نقصد وإلى أين نتوجّه ؟! نقول: (نذهب) إلى المرجئة ؟ إلى القدرية؟ إلى الزيدية؟ إلى المعتزلة؟ إلى الخوارج(٣) ؟ قال: فنحن كذلك إذ رأيت رجلاً شيخاً لا أعرفه يومئ إليَّ بيده، فخفت أن يكون عيناً (جاسوساً) من عيون أبي جعفر (المنصور الدوانيقي). وذلك أنه كان له بالمدينة جواسيس ينظرون على من اتفق شيعة جعفر (الصادق) فيضربون عنقه، فخفت أن يكون (الرجل الشيخ) منهم. فقلت لأبي جعفر (مؤمن الطاق): تنح فإني خائف على نفسي وعليك، وإنما يريدني (الشيخ) ليس يريدك، فتنحّ عنّي ، لا تهلك وتعين على نفسك. فتنحّى غير بعيد، وتبعت الشيخ، وذلك أني ظننت أني لا أقدر على التخلص منه، فما زلت أتبعه حتى ورد بي على باب أبي الحسن موسى (الكاظم) عليه السلام ثم خلاّني ومضى، فإذا خادم بالباب فقال لي: أُدخل، رحمك الله. قال: فدخلت فإذا أبو الحسن (الكاظم) عليه السلام فقال لي ابتداءً:لا إلى المرجئة ، ولا إلى القدرية، ولا إلى الزيدية، (ولا إلى المعتزلة )، ولا إلى الخوارج، إليَّ إليَّ إليَّ، قال (هشام): فقلت له: جعلت فداك مضى أبوك؟ قال: نعم .
قلت: جعلت فداك مضى في موت؟ قال:نعم ، قلت: جعلت فداك فمن لنا بعده؟ فقال:إن شاء الله يهديك هداك.
قلت: جعلت فداك، إنّ عبد الله (الأفطح) يزعم أنه (إمام) من بعد أبيه فقال: يريد عبد الله الأفطح أن لا يعبد الله .
قال: قلت له: جعلت فداك، فمن لنا بعده؟ فقال: إن شاء الله أن يهديك هداك أيضاً.
قلت: جعلت فداك، أنت هو (الإمام) ؟ قال:ما أقول ذلك.
قلت ـ في نفسي ـ لم أُصب طريق المسألة (أي أخطأت في كيفية السؤال).
قال (هشام): قلت: جعلت فداك، عليك إمام ؟ قال:لا . فدخلني (دخل قلبي) شيء لا يعلمه إلاّ الله إعظاماً له وهيبة، أكثر ما كان يحلّ بي من (هيبة) أبيه (الإمام الصادق) إذا دخلت عليه.
قلت: جعلت فداك، أسألك عمّا كان يُسأل أبوك؟ قال: سل تُخبر، ولا تُذِع (أي لا تنشر الخبر) فإن أذعت فهو الذبح.
قال (هشام): فسألته فإذا هو بحر!.
قال (هشام): قلت جعلت فداك، شيعتك وشيعة أبيك ضُلاّل، فالقي إليهم (أخبرهم) وأدعوهم إليك؟ فقد أخذت عليّ بالكتمان.
فقال (الإمام): (من آنست منهم رشداً، فألق عليهم (أخبرهم) وخذ عليهم بالكتمان، فإن أذاعوا فهو الذبح) وأشار بيده إلى حلقه)(٤)
إنّ هذا الحديث الذي أدلى به هشام يكشف لنا عدة حقائق:
١ ـ كثرة انتشار الجواسيس، وجو الرعب، والحذر، والخوف، وفقدان الأمن الذي عمّ أبناء الأمة وأخيارها خصوصاً سكان المدينة.
٢ ـ كما يكشف لنا عن أنّ إعلان الإمامة لموسى عليه السلام وإخبار الشيعة بإمامته، لم يكن ظاهراً لعامة الناس بل كان محدوداً ببعض الخواص من الشيعة بحيث تجد حتى مثل هشام لا يعلم أن الأمر لمن إلاّ بعد حين، وقد حصل عليه بالطرق الشرعية والعقلية، وهذه الممارسات وغيرها جعلت الشيعة تتدرب وتتمرّس على الأساليب التي تقيها من سيف الظالمين مثل السرّية والتقية، لذا نجد الرواة عند نقلهم لأخبار الإمام موسى عليه السلام لا يصرّحون باسمه الصريح بل كانوا يقولون: (قال العبد الصالح) ، أو (قال السيد)، أو (قال العالم) ونحو ذلك.
هذا التكتم يقص حكاية معاناة الشيعة آنذاك في مقابلة إمام زمانهم من جهة ومن جهة آخرى هم بحاجة إلى معرفته والبحث عنه، كما كانوا يتيهون في ضلال ادعاء الإمامة وقساوة السلطة الحاكمة مع وجود الإمام، كما نمر اليوم بتيارات عدة تلفح القلوب من كل صوب وجانب، حتى من يظنُ أنه ناجٍ قد يكون بعيد عنه الإمام أو يؤذي الإمام وهو ساه، فعن أمير المؤمنين "يا كميل ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة".
فمعرفة الإمام ليست بهذه السهولة منذ ذلك اليوم وحتى الساعة، كما أنها تحتاج إلى مخاضات عدة في مواجهة النفس والشبهات والسلطات الحاكمة، كما تحتاج إلى الصبر حتى لا يسأم الموالي ولا يمل انتظاره، ففي الحقيقة من لم يعرف الآل في ذاك الزمان لا يعرفهم الآن، فلو كنا هناك من المحتمل جدا أن تعز علينا معرفة الإمام ورؤيته.
اضافةتعليق
التعليقات