سألت إحدى السيدات الطاعنات في السن ذات مرة سؤالاً جريئاً وصريحاً.. وحقيقة الأمر كان سؤالي من باب المعرفة. للتعرف كيف يفكر أجيال سبقونا بقيمهم ، وبأفكارهم، وبعاداتهم واتجاهاتهم . وكيف هم يطوون همومهم، وكيف يعبرون عن مضمون أفراحهم .. أحزانهم . مضمون السؤال الجريء كان، هل تحبين والدك وتحترميه ؟! ترى هذه السيدة المسنة ماذا أجابت؟ قالت هذه السيدة: أنا احترم والدي ولكني لا أحبه ! أكملت حديثها وقاطعتني كي لا أكمل السؤال والاستفسار بذكاء لامع ولماح منها، حذار أن تسأليني عن السبب ، أو الدافع فأنا لا يمكنني الإجابة في هذا المجال. وجال بخاطري بعد تعجب لم أتمكن من ضبط نفسي عنه، سوى أن أسكن، ألتزم الصمت، فغر فاهي، ودار في خلدي، كيف لها أنها تحترم والدها ولكنها لا تحبه، ولطالما اختارت الصمت من بعد هذه الإجابة، وأحكمت بقرار شجاع، أن لا تسمح للآخرين التطفل على مساحتها الشخصية. أدركت أن هناك في ثنايا التاريخ أزمة، تنم عن غضب.. عن رفض .. عدم رضا. إنها لربما محكومة بعصمة من القيم التي تفرض عليها الطاعة بحكم قيم المجتمع، في عقود مضت طاعنة في العمر، قيمهم تقول أن الإنسان وما ملكت أيمانهم هم أسياد لهذه المخلوقات من الأبناء والأحفاد. إذا كانت هذه السيدة وما تملكه من رجاحة عقل واتزان تبلغ مدى فاق العديد من الرجال في وسطها الاجتماعي، فهي مرجع لهم وقت الأزمات.. لا يتخذون قرار إلا بالرجوع إليها، وفي عصيبة الأمور يرجعون إليها بالمشورة لاتخاذ القرار الحكيم، حتى في قضاء الأفراح والزواج، تبقى هي صاحبة القول والفصل حتى في أدق الأمور، تصل حد فصل المهور بين العروسين، وينال العرسان بركاتها بزيارتهم لها، والجلوس بحدها، تداعبهم وتلاطفهم، وتدغدغ مشاعرهم ، كما لو كانت طينة عجيبة، تتكيف مع كل الأجيال! هذه السيدة صاحبة المكانة الرفيعة في وسطها الاجتماعي حين يلم بها وعكة صحية ، تجد من كل حدب وصوب يجولون حولها داعين لها بالصحة والعافية، وحين تنهض من مرضها ترتاح النفوس في مهجع عشيرتها وكأن الفجر يطل عليهم بأفراحه، وزالت كربهم. تقول المسنة الحكيمة، ليس بالخبز وحده يحيا الأبناء، ولكن العلة والابتلاء فيمن سلطوا أنفسهم على أبنائهم وما لهم من الدنيا والدين سوى فنجان شاي.. وكانت تقصد ضحالة المعرفة، وزمن قصير من العلم. هذه السيدة ذاقت من والدها كل ألوان الإهمال، كونها فتاة، وللذكر في مجتمعاتنا نصيب العرش الأسري، وجميع الفتيات ليس أكثر من مملكة الخدم في حضور الأبناء. كانت هذه السيدة تستهجن فكر والدها منذ الصغر، وتعجب لغياب الحكمة لديه. كما لغيره فكانت تستمع إليهم، تضحك.. تسخر منهم من كلامهم من تفكيرهم لدرجة أنها حولت العديد منهم في لحظات عديدة إلى مسرح متنقل من الحكايات ...
أمل سيدة فلسطينية تبلغ الأربعين عاما، ومتزوجة من أحد أقاربها، والدتها سيدة كبيرة في السن، تملك من عاطفة الأمومة الموجهة كأشعة الليزر تجاه الأبناء الذكور، ولا يبتل وجدانها شطفة تجاه بناتها.. عواطفها كبيرة جدا لأبنائها وأحفادها، تغدق عليهم من كلمات وعبارات وسلوك لا ينضب من الوجدان إلا بناتها الإناث. تسمع صراخها، حرصها لا يتوقف لو للحظة واحدة وهي تراقب مرور الأبناء والأحفاد، تغضب تزمجر كل من يثير سخط أولادها وأحفادها، ولكن تجدها تشتاط غضبا حين يحضر أحفادها من طرف البنات. كل هذا السلوك دفع تلك السيدة من أواسط العمر أمل لتصرخ في وجه أمها.. انك لا تحبيني ولا تحبين أولادي.. وأنا أيضا لا أستطيع أن أحبك ولن تجدي منى سوى الجفاء.. أمل سيدة طيبة، إلا أن والدتها في وجدانها.. في إدراكها المعرفي أزمة، تتكرر لدى العديد من الأمهات بحيث تعتبر إن مملكتها الخاصة فقط هم أبنائها، وأحفادها من أبنائها، أما الآخرين فهم جميعا مختلفون.. لا تعتبر أنهم يشغلون مساحة من عراقة نسبها، فكل ما تملكه من وجدان إن أحفادها هم من يتحركون في مسيرة الأبناء الذكور، والذكور فقط كمن يحملون لها مشاعل التاريخ للمستقبل الذي قرب أن ينتهي، وتنتهي هي معه لولا أننا نقول: (الأعمار بيد الله).
اضافةتعليق
التعليقات