الحاضر لا يستقيم ولا يمكن له الوقوف على قدمين قويتين، مـا لـم يأخذ من تجارب الماضي، ويستمد منها قوته ومساراته الصحيحة في الحياة الشائكة المتعرجة، ومن أعظم تجارب الماضي، وأكثرها خلودا في التاريخ الانساني، ملحمة عاشوراء وأحداثها التي تتجدد على مستوى الفكر والفعل، مع تقادم الأزمان، نظرا لأصالتها وانحيازها التام، إلى جانب الانسان، ضد الطغيان وأوجه الظلم كافة.
ولهذا شكلت عاشوراء ومضامينها، مدرسة حية وشاخصة، أمام البصائر والأبصار، ينهل منها من يرغب من الناس، أفكار الفضيلة، والسمو والترفع عن الصغائر، ناهيك عن الزخم الكبير المتواصل، الذي يستمده الإنسان منها، ليقف ضد الظلم مهما كان حجمه أو نوعه أو مصدره، ولذلك أصبحت عاشوراء مدرسة خالدة، بأفكارها، ومنطلقاتها وقيمها الانسانية التي نتزود منها في كل حين.
عندما نقرأ هذا الحدث تأريخياً وفق مصادر معتمدة، نجد بأن معركة كربلاء هي واقعة لم تحدث بسبب الصراع على الحكم والبيعة بين آل أمية وآل هاشم، بل منهج مدروس وفق مخطط الهي بحت والرويات المعتبرة تذكر واقعة كربلاء وما يجري على أهل البيت في زمن جدهم النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) فهو أول البكائين على ولده الحسين (عليه السلام).
إذ ذكر النبي محمد (صلى الله عليه وآله) مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) في عدة روايات معتبرة في كتب الحديث والتاريخ عند المسلمين، سواء في مصادر الشيعة أو في كتب أهل السنة الموثوقة. ومن أبرز الروايات التي ورد فيها ذكر مقتل الحسين (عليه السلام) قبل وقوعه، على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله):
أولًا: من كتب أهل السنة
أولاً: حديث أم سلمة – تراب كربلاء
روته أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها:
عن أم سلمة قالت: كان الحسن والحسين يلعبان بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله) في بيتي، فنزل جبرائيل وقال: يا محمد، إن أمتك ستقتل ابنك هذا من بعدك. فبكى رسول الله وضمّ الحسين إلى صدره، وأخذ من تربة كربلاء وقال:
"ويحٌ لكِ يا أم سلمة، هذه تربة الأرض التي يُقتل فيها، فاحتفظي بها، فإذا صارت دماً فقد قُتل حبيبي." (1)
ثانياً: حديث أنس بن مالك – بكاء النبي (صلى الله عليه وآله)
عن أنس بن مالك قال: استأذن ملك المطر أن يزور النبي (صلى الله عليه وآله) فأذن له، فقال للنبي: أتريد أن أريك قبر الحسين الذي يُقتل بأرض كربلاء؟
فبكى النبي وقال: نعم، فضرب بيده، فجاء بتربة حمراء فشمّها النبي وقال: هذه من أرض كربلاء.(2)
ثالثاً: حديث عائشة – الحسين في حجر النبي
عن عائشة قالت: رأيت رسول الله
يُقبل الحسين بن علي، وهو يقول:
"إنما هو ريحانتي من الدنيا، وإن ابني هذا يُقتل بأرض من أرض العراق، يقال لها كربلاء." (3)
ثانيًا: من مصادر الشيعة الإمامية
مصادر الشيعة أوردت روايات عديدة تؤكد أن النبي (صلى الله عليه وآله) أخبر بمقتل الحسين عليه السلام، منها:
1. عن الإمام الصادق عليه السلام، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لفاطمة:
"يا فاطمة، إن الحسين مقتول بعدي، لا تنالي الشفاعة إن لم ترضي بقتله."( 4)
2. عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال:
"بكى النبي (صلى الله عليه وآله) لما نزلت تربة كربلاء من يد جبرائيل، وقال: هذه الأرض التي يُقتل فيها ابني الحسين."(5)
3. أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان كلما دخل الحسين (عليه السلام) بكى وقال:
"يُقتل ابني الحسين بأرض يقال لها كربلاء، ومن شهد وقعة كربلاء ونصره، فقد نصرني."(6)
جميع هذه الروايات، سواء عند أهل السنة أو الشيعة، تتفق على أن: النبي (صلى الله عليه وآله) أخبر بمقتل الحسين (عليه السلام) وذكر اسم كربلاء أو صفاتها، بكى عليه قبل استشهاده بعشرات السنين، وهذا مما يدل على عظمة الحدث، ومكانة الحسين عليه السلام عند رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ثم نستنتج العبر من تلك الروايات التي تحدث الرسول عن حفيده وسيد الشهداء إلى عظمة الواقعة وأن ثورة الحسين هي امتداد لرسالة جده والدفاع عن مبادئ الاسلام والدين المحمدي، كونه يطلب من ابنته الزهراء تقبُل مقتل الحسين (عليه السلام) وأصحابه وسبي نسائه.
وكما ألزم الزهراء (عليها السلام) بضعته إذن هو أمر حتمي ومسلم أن يتقبل المؤمنون قربان الشهادة من أجل نصرة الحق وارساء منهج العدل.
ولكن السؤال كيف يتقبل الموالون تلك الظلامة بحق سيد الشهداء هل تكفي ممارسة طقوس الشعائر؟ أو هناك هدف أعظم وأسمى من إقامة تلك المراسيم! وإذا عدنا إلى أحاديث الأئمة المعصومون فهم أمرونا بإحياء أمرهم وفجيعتهم ليس لمجرد اقامة الشعيرة بقدر ما السير على نهج أهل البيت في إرساء مبادئ الإسلام واظهار الحق. فلم يقتصر نهج الاصلاح، والاستفادة من قيم المدرسة العاشورائية على الحياة وتنظيمها، وتوجيه مساراتها نحو سبل الصواب، بل تعدت ذلك الى النجاح في ضمان حسن العاقبة، في الحياة الأخرى، حيث يبقى الرضا الالهي، هو الهدف الأهم لكل الناس.
وفي هذا الصدد يؤكد سماحة المرجع الشيرازي قائلا: (يتزود المؤمنون من دروس عاشوراء الغنية لدنياهم وآخرتهم). ينبغي لنا أن لا ننسى بأن المدرسة العاشورائية العظيمة، وصلت إلينا بعد التضحيات الجسيمة، التي قدمها المؤمنون، وأتباع أهل البيت، صلوات الله عليهم، على طريق نصرة الامام الحسين (عليه السلام)، والعمل بأهدافه نحو الاصلاح، حيث واجهوا شتى الصعاب والمخاطر، لاسيما من قبل الحكام الطغاة، الذين كانت قيم عاشوراء، ولا تزال تشكل خطرا عليهم.
ومرت بمسيرة طويلة من التحولات وإن التضحيات التي قدمها الأسلاف والوالهون بسيد الشهداء - سلام الله عليه - هي التي أوصلت إلينا هذا المدرسة العاشورائية المناهضة للظلم والعريقة بأهدافها المقدسة.
ومثلما وصلت إلينا مدرسة عاشوراء وقيمها، من خلال تضحيات السابقين من المؤمنين الصالحين، لابد أن نوصلها إلى الأجيال القادمة. ومع هذا الاستذكار السنوي المتواصل، يكون الإنسان أكثر استعدادا لمساندة الحق، مستمدا رؤيته وايمانه هذا من رؤية ومبادئ واقعة الطف التي هزت عرش الطغيان قبل قرون وقرون.
ففي كل ذكرى عاشوراء تتجدد القيم ومفاهيم جديدة من مدرسة عاشوراء الخالدة. ذلك أن عاشوراء ليست مناسبة دينية فحسب، ولا هي مناسبة لأداء الشعائر فقط، إنما هي تجديد للأهداف التي نادى بها الإمام الحسين (عليه السلام) والتي قدم ازاءها حياته ثمنا لمقارعة الظلم والانحراف السياسي والأخلاقي الذي حاول فيه بنو أمية، كي ينحرفوا بالاسلام عن مساره، وكي يجيروا الدين لمصالحهم الفردية، في الحفاظ على الكرسي بوسائل الظلم والتجهيل والتقتيل، وكبت الآراء وكل الوسائل التي تساعدهم على البقاء لأطول زمن في كرسي العرش الذي هزته الثورة الحسينية، ولا تزال تعلن مقارعتها لبؤر الظلم وأصحابه في أي مكان وزمان، لاسيما البلدان الاسلامية التي تتخذ من الاسلام شكلا لها، في الوقت الذي أصبحت بعيدة كل البعد عنه وعن كلام الله في كتابه الكريم.
المدرسة العاشورائية خالدة وعظيمة، كونها تتواءم مع فطرة الإنسان، وتوجهاته نحو العيش بسلام، في ظل قيم ومبادئ ترفع من شأنه، وتحفظ كرامته، وبهذا اكتسبت عاشوراء خلودها وعظمتها، وأختمها بقول الإمام الحسين (عليه السلام) المشهور: "إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب".
وهذا القول يُعد من أبرز الشعارات التي عبّر بها الإمام الحسين عن سبب خروجه وثورته على ظلم يزيد بن معاوية، وهو بيان واضح بأن ثورته لم تكن طلبًا لسلطة، بل كانت حركة إصلاحية تهدف لإحياء القيم الإسلامية الأصيلة.
___________________
اضافةتعليق
التعليقات