ركز معظم دارسي عقل الطفل على الطبيعة الكمية لعلم نفس الطفل، حيث كان الاعتقاد أن الأطفال نسخ مصغرة من الراشدين من حيث إن قدراتهم العقلية أقل، ويرتكبون أخطار أكثر.
أما العالم بياجيه، فلم يكن يرى الأمر بهذه الصورة، بل كان يرى اختلافاً جوهرياً عن طريقة تفكير الراشد. إن سبب المشاكل في التواصل بين الراشدين والأطفال هو أن لدى كل منهم طرق مختلفة يرى من خلالها العالم وعلاقته به، وليس بسبب وجود فجوة في المعلومات بينهم.
وقد استعار"بياجيه" من مدرسة التحليل النفسي تمييزها بين هاتين النوعيتين من التفكير:
-التفكير الموجه أو الذكي، وهو تفكير ذو هدف، ويوفق ذلك الهدف مع الواقع، ويستطيع التعبير عنه باستخدام اللغة، وهذا النوع من التفكير يستند إلـى الخبرة أو المنطق.
-التفكير غير الموجه أو التوحدي، وهو تفكير يتضمن أهدافًا غير واعيــة وغير متوافقة مع الواقع، وتقوم على إشباع الرغبات وليس تأسيس الحقيقة. ولغة هذا النوع من التفكير هي الصور، والأساطير، والرموز.
ويرى أصحاب التفكير الموجه أن للماء خصائص معينة ويطيعون قوانينه المعينة، ويتمثل إدراكهم في التصور الذهني والمادي.
أما أصحاب التفكير التوحدي، فإنهم لا يعرفون الماء إلا من حيث علاقته برغباتهم وحاجاتهم، حيث يعتبرونه شيئا يمكن شربه، أو رؤيته أو الاستمتاع به. وقد ساعد هذا التمييز"بياجيه"على أن يحدد تطور تفكير الأطفال حتى سن الحادية عشرة. الأطفال من الثالثة حتى السابعة متمركزون حول انفسهم بدرجة كبيرة، ولديهم عناصر من التفكير التوحدي، أما في المرحلة من السادسة إلى الحادية عشرة من العمر فإن التفكير المتمركز حول الذات يفسح المجال للذكاء التصوري.
وقد أجرى"بياجيه"تجارب طلب من الأطفال فيها أن يحكوا قصة حكيت لهم، أو قصة تشرح شيئا مثل كيفية عمل صنبور المياه؛ فوجد أن الأطفال قبل السابعة لم يهتموا بإن كان من يستمعون إليهم يفهمون فعلا ما القصة التي يروونها أو آلية عمل الصنبور أم لا.. لقد كانوا يستطيعون الوصف، لكنهم لم يكونوا يستطيعون التحليل. أما الأطفال من السابعة للثامنة من العمر فصاعدا، فقد كانوا يفترضون أن من يتحدثون إليهم لن يفهم ما يقصدونه، فيحاولون أن يقدموا وصفا دقيقاً حتى يكونوا موضوعيين، لأن تمركزهم حول ذواتهم حتى هذه السن لم يكن يمكنهم أن يكونوا موضوعيين. يخترع الأطفال ما لا يستطيعون شرحه وما لا يعرفونه قبل أن يبلغوا السابعة من العمر، أما بعد السابعة، فإنهم يعرفون معنى أن يحكوا الحقيقة أي يعرفون الفرق بين الاختراع والواقع.
وقد لاحظ "بياجيه" أن الأطفال يفكرون بأسلوب الرسومات بما يمكنهم من التركيز على إجمالي ما يريدون قوله دون حاجة للتفاصيل. وعندما يسمع الأطفال شيئا لا يفهمونه لا يحاولون تحليل تركيبة الجملة التي ورد فيها هذا الشيء أو كلماتها، بل يحاولون فهم أو خلق معنى جديد تمامًا. ولاحظ" بياجيه" أن الغالب على التطور للأطفال أن يتطوروا من التوحد إلى التحليل أي أن يروا الكل أولاً قبل أن يستطيعوا تحليله إلى أجزائه المكونة أو تصنيفه، إن عقل الطفل قبل السابعة توحدي بدرجة كبيرة، لكنه يطور بعد ذلك القدرات التحليلية التي تميز الانتقال من عقل الصغار إلى عقل الراشدين.
خاصة تساءل "بياجيه"عن سبب تخيل الأطفال من هم دون السابعة ومبالغتهم في استخدام الخيال، فلاحظ أن عدم اتباعهم التفكير التحليلي أو الاستدلال لا يجعلهم مضطرين لإيجاد تفرقة واضحة بين الواقعي و غير الواقعي، ولأن عقولهم لا تعمل بأسلوب السبب والنتيجة، أو إيجاد الأدلة فإنهم يرون كل شيء ممكناً.
عندما يسأل الطفل: ماذا سيحدث لو كنت ملاكا؟ يرى الراشد أن أن هذا السؤال لا يستحق عناء البحث عن إجابة له لأنه يعرف أن هذا لن يحدث في الواقع، أما الطفل إنه لا يرى كل شيء ممكنا فحسب، بل وممكن التسير أيضا لله لا يرى ضرورة للمنطق الموضوعي. وكل ما يلزم لإشباع عقل الطفل هو الدافعية، وكأن يقال له مثلاً في أسباب انحدار الكرة من على تل إنها أرادت أن تنزل من على التل فنزلت. وبعد ذلك بعام سيفسر الطفل هذا من منظور الماء ينحدر من على التل دائما ؛ لذلك السبب ينحدر هذا النهر عبر التل.
لماذا لا يكف الكثير من الأطفال الصغار عن السؤال لماذا؟ لأنهم يريدون أن يعرفوا نية كل شخص وكل شيء حتى إن كان الشيء جماداً ولا يعرفون أن بعض الأشياء فقط هي من توجد لديها نية. وبعد ذلك، وعندما يدرك الطفل أن بعض الأشياء تحدث بالفعل دون أن تنوي ذلك، فإن أسئلتهم تدور حول السبب والنتيجة، ويتماشى الوقت الذي لم يفهموا فيه بعد مفهوم السبب والنتيجة مع فترة التمركز حول الذات.
كثيراً ما يجد الراشدون صعوبة في فهم الأطفال لأنهم ينسون أن المنطق ليس له دور في عقل الطفل، إننا لا نستطيع أن نجعل الأطفال يفكرون كما نفكر قبل بلوغهم سن معينة وفي كل مرحلة عمرية يكتسب الأطفال توازناً معيناً فيما يخص بيئاتهم أي أن الطريقة التي يفكرون ويدركون بها في من الخامسة تشرح العالم لهم.
أفضل شرح، ولكن نفس هذه الطريقة لا تجدي معهم عندما يبلغون الثامنة من أعمارهم.
وقد استكشف "بياجيه" في كتاباته الأخيرة المرحلة الأخيرة من التطور العقلي لدى الأطفال، والتي تبدأ فى الحادية عشرة أو الثانية عشرة. إن قدرات المراهقين على الاستدلال، والتفكير المجرد، وإصدار الأحكام، والتفكير في البدائل المستقبلية تجعلهم لا يختلفون عن الراشدين من حيث التفكير، وعند هذه المرحلة تحدث زيادة في هذه القدرات ولا تحدث تغيرات كيفية في التفكير.
اضافةتعليق
التعليقات