قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ(97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}(الحجر:99).
نستطيع أن نقول أن ملامح حكاية كدح الإنسان يمكن أن نستلهمها من هذه الآيات المباركات الثلاث، فكل ما يجعل صدر الإنسان يضيق، وقلبه يسقم، وحركته تتباطأ إنما هي العوائق التي تصدر من نفسه الضعيفة، ومن عدوه الذي خسر صفقة القرب من إله العالمين.
أما العبودية فهي البرزخ بين مسيرة الكدح وبلوغ الظفر، ولهذا لما توعد ابليس ألا يجعل بني الإنسان يبلغون الصراط المستقيم، كان المستثنى من تحقق هذا الوعد هم من تتحقق فيهم [العبودية الخالصة]؛ فهذه العبودية من صور نمائها وتحققها هي تنزيه المعبود والخضوع له وحده لا شريك له.
فمن حقق العبودية في وجوده لله تعالى وانقاد بقلبه لربه، فكانت جوارحه خاضعة وخاشعة لمولاها، فهو ممن قد وجه وجهه لفاطر السموات والأرض، وممن نزهه بالتسبيح، حيث انتفاء فكرة خلوه من مكان، وانعدام الغفلة عمن هو معه ومحيط به؛ عندئذ لن يكن صوت الباطل في مسامعه أعلى من صوت الحق، بل تأثير الموجد لكل هذا الوجود فيه هو الأكبر.
لذا العبودية ليست ضعف إن كانت لله تعالى بل قوة، تجعل العابد لا يخضع أو يسمع أو يتأثر بكل ما لا ينتمي إلى الحق أو لا يوصل للحق -فكما يقال- "النفس البشرية فطرة على العبودية فإن لم تخضع لخالقها وتتبع الحق، فهي ستخضع للخلق من أمثاله، وستتبع الباطل".
لذا المدرك لهذا المعنى يكون من الحامدين لأنه ممن وفق ليكون عبد لله تعالى لا غيره، وبالنتيجة سيكون أقوى وأثبت في مسيرة الكدح التي هو فيها.
أما اليقين فُسر بأنه "الموت"، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال في تفسير {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}: "ما خلق الله عز وجل يقينًا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت"(١)، فعند انتهاء رحلة الإنسان وانتقاله من عالم الشهود إلى عالم الغيب، سيبصر وتنكشف عنه الحجب، ليرى ثمرة عبوديته وكدحه في مواجهة تلك العوائق التي كانت تريده أن يلتفت إليها، فيبطئ بالمسير بل وليغير وجهته في كثير من الأحيان.
كما ويمكن أن نفهم معنى آخر لتلك الخاتمة [بلوغ اليقين]، وهي بمعنى تحصيل ملكة الموت المعنوي، أي لا يحتاج إلى مجاهدة كثيرة وطويلة للتخلص من الضيق والتعب من وجود هذه العوائق أثناء المسير، بل ما إن تُقبل عليه لا تؤثر به، أي يموت تأثيرها على المستوى المعنوي، فيسير وهو مرتاح ومستبشر بحسن الخاتمة.
ولأن هذه الأصوات ستبقى تأتي كإشارات التنبيه التي نراها في الطرقات، فإن مررنا أمامها مرور الكرام ولم نهتم ونركز فيها، سنجتاز هذه العقبة بشكل أسرع، أما إن تأثرنا ودققنا فهذا ليس شيء موجب لليأس بل علينا أن نعترف ونتقبل أننا ضعفاء أمام اختبارات الدنيا، والتي هي جزء أساسي من وجودنا في هذه الرحلة.
ثم نصمم أن نتعلم كيف نجعل هذه النَفس تصل للعبودية المطلوبة منها، فكلما أتى عائق، وضعفنا [نسبح الله تعالى]، لنُذكِر هذه النفس أن لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى، أن نُصفي مسامع قلوبنا ليكون صوت أوامره ونواهيه هي الأقرب والأهم، وهكذا سنرى كيف أن كل تلك الأصوات ستخفت شيئا فشيئا، حتى تختفي فلا نسمع لها همسا... فيحيا صوت الحق ويموت كل ما عداه في دواخلنا.
بالنتيجة كلنا سائرون في هذه الرحلة، ولكل منا درجة من العبودية، والموفق من حقق وأوجد اليقين في حياته الدنيا قبل أن ينتقل لتلك الحياة الأبدية، فيكون ممن يذهب لليقين قبل أن يأتيه، يكون حاضرا لاستقباله فلا يعيش الوجل والخوف من مجيئه، ولا يكون غريبا عنه، أو صعب التقبل متى ما أتى إليه.
_______
اضافةتعليق
التعليقات