كانت المكتبة غارقة في ظلام فارض لا يظهر من جدرانها العالية سوى رفوف الكتب المحملة بالمجلدات ذات الأغلفة الجلدية المتشقّقة وقد التصقت بعضها ببعض ككائنات أسطورية احتكرت القصص والحكايا وحصرتها بين الدفتين، تسطو على الأجواء رائحة عتيقة تصدر من صفحاتها الصفراء ذات الحبر القديم والمحمّلة بغبار متراكم، كسر سكون الليل صرير الباب الخشبي المتهالك الذي أغلقه أمين المكتبة بعد أن أخذ شيئًا من الدنانير ..
كان الظلام شبه كامل ما عدا شمعة خافتة الضوء أخذت على عاتقها عبء مشاكسة جبروت الظلام.
جلس عبد الحسين تحدوه الخواطر والأفكار الدبقة التي لا تنفكّ تلتصق بعقله وما هي إلا هنيهة حتى انسلخت روحه كالعادة متسلّلة من بين جنبيه لتمتزج بالفضاء سارحة مستمتعة بالسكون الذي يهديه الليل إلى ذوي النفوس الصاخبة، لم تكن هذه المرة الأولى التي تتسلّل روحه لتنطلق في الآفاق الرحبة، فقد ألف هذه الحالة وانقاد لهذه الروح التي ما انفكّت تطير في أصقاع العالم لا تستقرّ بمكان، كان يعرف أنها تبحث عن غدير ينضح بماء الخلود..
كان عبد الحسين عاشقًا، يعيش عذابًا عَذْبًا بعشقه الفسيح، يحترق في اليوم عشرات المرات كلّما يتجلى له الحبيب في نسمات الربيع وإشراقة الصباح، يا له من انسلاخ حلو هذا الذي تعيشه الروح الباحثة عن تجلّيات المعشوق ..
لقد قرأ عنه عشرة آلاف كتاب من أوّله إلى آخره وراجع مئة ألف .. متبعثرة في أصقاع البلاد البعيدة والقريبة ..
ذات مرّة تاهت هذه الروح المشاكسة في بلاد الهند الحارّة حيث تبدأ أشعّة الشمس في كل صباح صيفي بفرض سطوتها اللا محدودة محوّلة الشوارع إلى فرن حامٍ يساعدها في ذلك الهواء الثقيل والرطب، كان يجوب الأزقّة الهندية بثيابه المتواضعة متنقّلا من مكتبة إلى مكتبة، يمرّ في أسواق مكتظّة محاولًا تجاوز الزحام، بينما تتضارب أصوات الباعة وقرع الأواني مع أفكاره، كان يمشي مسافات طويلة لا تُثني عزيمته شمس ولا مطر، يتوقّف خلالها مارًّا على المكتبات الصغيرة وأكشاك الكتب المستعملة، ليتأمل كتابًا قديمًا كأنّه كنز ثمين وكلّه أمل أن يجد كتابه المنشود هناك.. في قارعة الأمنيات.
كان عقله منشغلًا بالمعرفة بينما تكابد أحشاؤه ضراوة الجوع وقسوة العيش.
الكتب كانت خارطة تقوده إلى طريق الحبيب ..
في مرّة أخرى ساقته هذه الروح التوّاقة إلى بغداد عند أحد مناوئيه ممّن رفضوا نهجه، شيخ من نوع آخر، حاول أقرانه أن يصرفوه من الذهاب إليه ولكنهم أخفقوا، عندما وصل إلى هناك طرق الباب طرقات عدّة حتى فُتح له، نظر إليه الرجل الكهل بملامحه الجافّة والباردة ثمّ سأله عن اسمه وماذا يريد؟ نظر عبد الحسين نظرة نحو الأفق الرحب ومداه البعيد، كانت كلماته ستختصر الطريق إما نحو الجنّة وإما نحو الغدير وكلاهما رائق فأجاب:
أنا عبد الحسين الأميني، جئت من النجف أطلب كتابًا أعرف أنه عندك ولا أجده في مكان آخر، بَهِت الرجل وارتسمت على وجهه ملامح من ابتلع شيئًا مرًّا تعبيرًا عن أنّه لا يستسيغ هذا الكلام، ثم سأله مغتاظًا:
- هل أنت عبد الحسين الأميني حقًّا؟! من الذي جاء بك إلى هنا وماذا لو امتنعتُ عن إعطائك الكتاب؟
أطلق عبد الحسين عباءته التي كان قد رفعها نصف رفعة ووضع رزمة دفاتره وأغراضه أرضًا ثم قال:
أخبرني بذلك مولاي علي (عليه السلام) وقال لي أنك سوف تعيرني الكتاب شئت أم أبيت، انتاب الرجل شيء من الرهبة الممزوجة بالخضوع والاستسلام أمام هذا الكائن الملكوتي الواقف أمامه بجسمه النحيل وحضوره السماوي، أطرق برأسه قليلًا ثم قال:
- ولكنني لا أعرف أين الكتاب؟ فأجابه عبد الحسين وهو يمسح حبّات العرق الزاحفة من جبينه:
- أنا أعرفه!
عندها دخلا وتجاوزا الدرجات الملتوية نحو الدور الثاني حيث المكتبة التي أكلها الغبار المنتشر فوق الكتب والمخطوطات والرفوف والثريات النحاسية القديمة من زمن الأجداد، مدّ عبد الحسين يده وأخرج الكتاب المنشود المحشور بين آلاف المجلّدات الصغيرة والكبيرة فبُهت الشيخ وصُعق ممّا يرى غير مصدّق عينيه فلم يجد بدًّا من إعطائه الكتاب .
كانت هذه الإشارات توصله دومًا إلى نقطة الضوء التي تلتمع في دهاليز التيه الموحشة التي اختار السير فيها ..
قضى عبد الحسين تلك الليلة كلها في المكتبة منشغلًا بالبحث والدراسة كدأبه في كثير من لياليه الطوال حتّى خالط صخب الصباح صوت صرير الباب الخشبي العتيق والتي فتحها أمين المكتبة وسمح لعشرات الباحثين من العلماء أن يبدؤوا عملهم منذ تباشير الفجر الأولى، أما عبد الحسين فجمع أقلامه ودفاتره وخرج متوجّهًا إلى بعض شؤونه وقد ازداد يقينًا بوجود غدير فيه ماء الخلود، سوف يجده في مكان ما، لا بدّ من ذلك..
اضافةتعليق
التعليقات