كانت السنوات الأخيرة من حياة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) من أصعب الفترات التي مرّت بها الإمامة، فقد اشتدت قبضة المنصور العباسي عليه، وكثرت محاولات اغتياله ومراقبة تحركاته. لكن الإمام كان واعياً لهذه المخاطر، وأدرك أنّ مصيره هو القتل، لذلك بادر إلى جملة من الخطوات التي تضمن استمرار خط الإمامة، وتحافظ على تماسك الصف الشيعي بعد رحيله.
أولى خطواته كانت مواجهة الفتنة التي أراد البعض إثارتها باستغلال اسم ولده إسماعيل الذي توفّي في حياة أبيه. ولئلا يكون ذلك ذريعة لتفتيت وحدة الشيعة، حرص الإمام على أن يشهد كبار أصحابه موت إسماعيل ويعاينوا جسده، مؤكداً أن الإمامة بعده لولده موسى الكاظم (عليه السلام). بهذا الموقف الحكيم قطع الطريق على الأدعياء والمنتفعين، ورسم بوضوح معالم القيادة الشرعية من بعده.
ورغم الحرب الباردة مع المنصور، لم يتخلّ الإمام عن واجبه الإصلاحي تجاه الأمة، بل واجه السلطة بأسلوب حكيم، فحين هدّد المنصور بخراب المدينة ذكّره الإمام بسِيَر الأنبياء في الصبر والعفو والشكر، فعدل عن قراره. كما لم يسكت على خطابات التشويه التي أطلقها عمال الدولة بحق أمير المؤمنين (عليه السلام)، بل ردّ عليها بكلمات قلبت الموقف وأظهرت زيف ادعاءاتهم، ليبرهن أنّ الحق يُدافع عنه بالكلمة الصادقة كما بالسيف.
أما في علاقته بالشيعة، فقد ركّز على مبادئ جوهرية تحفظ كيانهم في وجه القمع، مثل التقيّة، وكتمان السر، وربط الأمة بالثورة الحسينية حتى تبقى روح الرفض حيّة في النفوس. وإزاء الرقابة المشددة اضطر إلى عقد لقاءات سرية مع أصحابه في بيته، موجهاً إياهم نحو الصبر والبصيرة، ومؤكداً أنّ الحفاظ على العقيدة أهم من مواجهة عابرة قد تستنزف الطاقات. وفي مواقف إنسانية عظيمة، ضرب مثلاً في التسامح حين تجاوز عن عمّه عبد الله بن علي بعد أن أساء إليه، وقضى ديونه وتكفّل بأسرته، فكان بذلك مدرسة في العفو والرحمة.
وإذا تأملنا هذه المواقف نجد أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) لم يكن يتحرك بدافع اللحظة، بل كان يصنع المستقبل ويحصّن الأمة ضد الانقسام والانكسار. وهنا تبرز رسالته لنا في العصر الحاضر: أن نتمسّك بالوحدة، وأن نواجه التحديات بالحكمة والصبر، وأن نحفظ هويتنا الإيمانية رغم الضغوط. كما يعلّمنا أن الاختلافات لا تُحل إلا بالوعي والصدق، وأن مواجهة الظلم لا تكون دائماً بالصدام، بل أحياناً بالكلمة والموقف الأخلاقي. وإذا تأسّينا بالإمام في سعة صدره، وثباته على المبدأ، وحكمته في التعامل مع الظروف الصعبة، سنجد أن دروسه صالحة لبناء واقع أفضل يحفظ للأمة وحدتها وكرامتها في كل زمان.
اضافةتعليق
التعليقات