لم يكن مقياس تلك الليلة الوقت بل كانت تُقاس بحجم الألم المُنوع فيها، ليلة بدأت بألم بسيط يمكن لأي فرد يحمله كنتُ حينها فرِحة بهذا الشعور حيث سأجرب أن أكون أمًّا للمرة الأولى، فكنتُ على أهبة الاستعداد لأي وجع يمرُّ بي، شغلتُ نفسي عن وجعها بدعاء الجوشن الصغير، والطلق يشد.. ببكاء قرأتُ دعاء التوسل لأول مرة أشعر بلذة هذا الدعاء، شعور مختلف مع كل إمام، تبعته بدعاء المشلول وأدعية أخرى، شعرتُ بخجل أمام الباري فهذه الجمعة أحييتها بما يليق بها فقط لأنتي أتالم، أين كنتُ في ليال الجمعات الأخرى، لازمني الحياء وأنا أدعو الله (عز وجل) فنحن لا نعرف حقّ العبادة إلا عندما نتألم أو نصاب بمصيبة.
دقّتْ الساعة الواحدة ليلا بدأتْ قواي تنفد، لم أعد أطيق الألم، خرجنا إلى المشفى، انتظر دوري في غرفة مطلة على السماء، أُسبِّحُ وأناجي وأقضي وقتي ذهابا وجيئة، الدقائق لم تكن تمر فكيف بالساعات، شعرتُ بوقوف الساعة أخبروني أن الطبيبة ستأتي مع آذان الفجر، راقبتُ الساعة، أنتظر مرور وقتها، ازداد الألم أضعافاً، شعرتُ لأول مرة بعظمة أمي، وراودني ألم مع كل موقف كنتُ أغضب عليها أو نتخاصم أو حتى أتسبب بألمها، ألم الحياء الثاني اعتراني، وقفتُ أقبل يدها ببكاء وصرخات حروفي (يمة ببيش أجازيج)، (سامحيني يمة)، وكنت أتوسل بها أن تجد لي طريقة لأتخلص من هول الألم.
الساعة الثالثة وخمس وأربعون دقيقة، ارتفع آذان الفجر، أسمع صوت الأذان وأنا منهكة القوى أنظر إلى السماء تزدحم غيومها، بدأت أدعو بدعاء الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): (يا مخلص الشجر من بين رمل وطين وماء، ويا مخلص اللبن من بين فرث ودم، ويا مخلص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مخلص النار من بين الحديد والحجر، ويا مخلص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلصني بحولك وقوتك)، ذهبتُ لتأدية صلاة الفجر محنية الظهر والوجع يفترسني بقوة، أتممتُ الصلاة، وعدتُ إلى النافذة، اتأمل بطول هذه الليلة، أعلم بأنها ستنتهي وستكون مجرد ذكرى، لكن أميالها وقفتْ، ولم أعد أطيق الألم.
طول تلك الليلة أخذني حينها إلى ليلة الحادي عشر، طفقتُ أتحدث مع مولاتي السيدة زينب (عليها السلام) (يعينج الله مولاتي) وأردد مقطع (بس ليلة الحادي عشر احملها عني.. احملها عني)، بزغ الفجر وبدأت الغيوم تشتد كما وصبْ الألم، شغلتْ أمي دعاء العهد وأنا أسمعه بعين مسدلة الجفن ثم تبعته بدعاء الصباح، الجميع يخبرني بأن أصرخ حتى أعبّر عن الوجع عسى وإن يتم استعجال الطبيبة، لكن لساني انعقد لا أستطيع أن أتحدث، اتصلتُ بزوجي أخبرته أن يذهب لحرم الإمام الحسين (عليه السلام) كي يدعو لي، وجدته ذاهباً هناك منذ صلاة الفجر يتوسل ويناجي.
لم يكن مشهد أختي الكبرى بأقل من أمي حيث كانتْ تأتي لتُصبرني وتُخبرني بأن فرحة لقاء الطفلة سينسيني كل هذا الألم، أخبرتها بأني أفهم كل ما تقولين لكني لم أعد أطيقُ وجعا، كانت تذهب لتخفي دموعها عني، فهي عاجزة عن تقديم الحلول.
لأول مرة استشعر الاحتضار، نطقتُ الشهادة، الآن أيقنتْ بسبب اعطاء رتبة الشهيدة لمن توافيها المنية بالولادة، كما عرفت ماذا تعني الجنة تحت أقدام الأمهات.
جاءتْ أمي بتسجيل دعاء الندبة من أحد المجالس النسوية التي أحبها وبدأتُ أفكر بطول كل هذه السنوات على قلب صاحب الزمان وهو يتألم لكل فرد ويشاركه معاناته، فضلا عن ألم الأخذ بالثأر بكيت كثيرا مع ارتفاع صوت الرعد الذي زلزل الغرفة، السادسة والنصف جاءتْ الطبيبة توسلت بها أن تُخلصني مما أنا فيه.
الساعة السادسة وسبع وأربعون دقيقة اشتد المطر، أسمع ضجيجه على النافذة، مع صراخي بيا علي سمعت صراخ ابنتي، وُلدت طفلتي (فاطمة) رأيتها من بعيد تبسمتُ لشبهها الكبير بوالدها.
انتهت الولادة وخرجتُ إلى غرفة الاستراحة وسط مباركات الجميع وفرحهم، كنتُ أحاول السيطرة على دموعي، فرحا بانقضاء تلك الليلة وكمية الدروس والمشاعر التي حصدتها منها، تركوني للفراش لأغط في نوم عميق.
اضافةتعليق
التعليقات