"الرأسمعرفية": هذه التسمية المركبة أو المزجية، وجدها المؤلف - كما ألمحت فقرات الاستهلال - أكثر دلالة على حال الحياة الاجتماعية والاقتصادية كما يعكسها هذا العصر: عصر المعلومات والاتصالات وتقنياتهما، والذي تحقق فيه للمعرفة النصيب الأوفر من السيادة أو القيادة.
وقد وقفتُ عند أكثر المسميات اقترابًا في أدبيات الموضوع من المفهوم المعني، فوجدتُ منها: (رأس المال البشري، رأس المال الفكري، رأس المال الاجتماعي، رأس المال المعرفي).
وتوقفتُ عند أولاها، أي رأس المال البشري، فإذا بالمصطلح أوسع، لأن من البشر من لا يحتل الفكر والمعرفة لديهم إلا القليل، أو أن عطاؤهم عطاء بدني في المقام الأول، كما تمثل ذلك في الذين حملوا كلاً من الموجتين الحضاريتين - والتسمية لـ"توفلر" - أعني: عصر الزراعة، وعصر الصناعة.
أما المصطلح الثاني "رأس المال الفكري"، فربما كانت دلالته ضيقة، إذ يُعطي الانطباع بأن الفكر محتكر لدى فئة فوقية من البشر.
ويجيء المصطلح الأحدث (الثالث) "رأس المال الاجتماعي" ليدل على ناتج الثقة والتعاون والمساندة بين أعضاء الجماعات لأجل مصالحهم الخاصة، وفي حالة تحقق "وفرة" من رأس المال الاجتماعي فإن الحياة تكون سهلة وسلسة وممتعة، كما يأمل أنصار المصطلح.
والمصطلح - كما نرى - معبِّر عن الحراك الاجتماعي والرقي في سلوك التفاعل بين أفراده وجماعاته.
وهكذا بقي المصطلح الرابع والأخير - فيما لديّ هنا - أعني "رأس المال المعرفي"، ورأيتُ فيه الأكثر ملاءمة، إلا أن بروز لفظ "المال" في قلب المصطلح يُفسد عليَّ فحوى الرسالة "المعرفية" التي جعلتها واحدة من الغايات الجوهرية لهذا الكتاب، ويحول دون الدلالة المباشرة التي ننشدها، وهي تكمن في تحوُّل العنصر الفاعل الأول في التقدم من المال إلى المعرفة، كما أنها تضع المال أولًا، بينما ما يثبته الواقع الآن - أكثر من أي وقت مضى - أن المعرفة "تخلق" الثروة، وتديرها، وتنمِّيها، ويمكن أن نضيف: وتستثمرها، بمعنى تشغيلها، وبمعنى شبه غائب - وإن كان الأهم - ترشيد غايتها.
إننا إذًا في حاجة إلى مصطلح جديد يُلابس المعنى بدون لبس، وهكذا جاء مصطلح "الرأسمعرفية" نافذًا إلى المعرفة مباشرة.
أمرٌ آخر يتمثل في أن نسبة المعرفة إلى الرأس أقرب إلى الحقيقة، لأنه مهما كان عِظمُ دور الحواس، ومهما كان عِظمُ الماديات، فإن ضابط الإيقاع، أو قل: سلطان ذلك كله، إنما هو العقل القابع في الرأس.
وإذا استعدنا إلى الأذهان الدور البازغ - الذي ألمحنا إليه من قبل - لما يُطلق عليه المعرفة الضمنية، وهي التي تعني بالخبرات والتجارب غير المدونة، لتأكَّد لدينا ملابسة هذا المصطلح للمفهوم المقصود.
وأيضًا، إذا كنا قد استسغنا في الماضي الاسم المزجي "رأس/مال" للدلالة على الدور الفاعل للمال في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فأحرى بنا أن نقبل بـالرأسمعرفية للدلالة على مرحلة جديدة، الفاعل الكامن الرئيسي فيها هو المعرفة.
أولاً: الحيثية اللغوية
يمكن القول مبدئيًا إن استخدام مصطلح رأس المال في معاجم اللغة العربية يُعبِّر بشكل واضح عن الثروة المادية، إلا أن يُضاف إليه صفة مميزة، كأن يُقال: رأس المال البشري، أو رأس المال الفكري، أو رأس المال العلمي... وهكذا.
ومن الجدير بالذكر أن بعض معاني كلمة Capital - وهي ما نترجمها عادة في اللغة العربية بـ"رأس المال" - جاءت تدعم هذا الفهم، أي: الثروة (المادية) الخاصة بالفرد أو المنظمة.
ومع ذلك، فإن أصل الكلمة اللاتيني Caput، أي "الرأس"، جاءت له دلالات أخرى، فضلاً عن "الثروة"، مثل: السلطة، أو البروز، أو عِظم الأهمية، أو التفوق على القرناء.
بل إن أحد المعاني جاء معبِّرًا بشكل مباشر عن مفهوم أكثر حداثة، باعتبار أن Capital هي "الأصول المتراكمة من الحقائق العلمية والرياضية التي يُرسى عليها ازدهارنا التقني".
وإذا نظرنا إلى استخدام بعض الكتّاب العرب لمصطلح "رأس المال الفكري" في مقابل Intellectual Capital - الذي يُعد الأقرب إلى المصطلح الذي اخترناه، أي: "الرأسمعرفية" - فإن لنا أن نتساءل:
هل يمكن القول إن المال، والاهتمام به، هجما على الكلمة، وحوَّلاها من "رأس" الشيء أو الجزء الأهم فيه، إلى التمركز حول المال واستثماره وتكوينه، وتطفله على التسمية، حتى ولو كان الاستثمار فكريًا أو معرفيًا؟
ثانيًا: الحيثيات الاقتصادية
كنَّا نحفظ في سنّ التنشئة، قبل خمسين عامًا، أن عناصر نجاح "الصناعة" أو الاقتصاد السائد وقتها تتمثل في: رأس المال / المواد الخام / الأيدي العاملة / الأسواق... إلخ.
ولم تكن ترد كلمة "معرفة" بشكل صريح، وربما أُضيفت كلمة "ماهرة" كصفة للأيدي العاملة، وهو ما لا يُغيِّر ذلك الحكم العام.
أما الآن، فيمكن القول إن المعرفة تهيمن علينا في كافة عناصر الصناعة أو التقنية، فلا بد من معلومات دقيقة تخص أي عنصر من عناصر الاقتصاد، لأن تسيير العمليات الاقتصادية في الوقت الحاضر لا يتم بشكل مُجدٍ دون توفر المعلومات في كل مرحلة، بل في كل جزئية من عمليات الإنتاج.
فـتكثيف المعرفة في النشاط الاقتصادي يؤدي إلى:
تحسين مستمر في المنتجات من جانب،
وتعظيم القيمة المضافة في العملية الإنتاجية من جانب آخر.
وهذا هو صُلب النجاح في الاقتصاد المعاصر.
وإذا كانت الثروات أو رؤوس الأموال في الماضي غير البعيد تُقاس بحجم ملكية الأراضي الزراعية على سطح الأرض، أو بمخزون الموارد المعدنية - مثل البترول والذهب وغيرها - في باطنها، مما اندلعت بسببه الحروب، أو بالمصانع ومنشآت الإنتاج الأخرى، حيث يتركز النشاط الإنساني في الاستنبات زراعيًا أو في الاستخراج أو التحويل صناعيًا؛ فإن هذا النشاط - في حال الرأسمعرفية - يتمثل في الأساس في القدرة على نشر وتوليد المعارف على مستوى الفرد أو المنظومة الاجتماعية.
وهنا يتجلّى دور التعلم، فالتعلم الفردي والجماعي من أهم قنوات بناء هذه الموجة الحضارية الأخيرة - أعني: الرأسمعرفية.
طبيعة الأصول المعرفية: الشمول الاجتماعي
يلفت تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003 انتباهنا إلى ما يراه من فارق بين الثروة المعرفية وما يسميه رأس المال المعرفي، حيث يُعرّف الثروة المعرفية بأنها:
"مجمل الأصول المعرفية، أو جماع المعارف، أو البنى الرمزية (المعبَّر عنها) في المجتمع"،
بينما رأس المال المعرفي:
"ذلك القسم من الثروة المعرفية الذي يُستخدم في إنتاج معارف جديدة، ويؤدي - نتيجة لذلك - إلى نمو الثروة المعرفية".
وإذا نجحنا في توضيح هذا التمييز، فيمكننا القول إن الأولى (الثروة المعرفية) تشمل:
الميراث الفكري،
المعلومات المتراكمة لدى المجتمع،
بما فيه من: حقائق وآراء وأساطير وأوهام وصدق وأكاذيب واحتمالات.
أما النوع الثاني من الثروة المعرفية - أو ما يمكن أن نُطلق عليه هنا "الأصول المعرفية" - فيشتمل على:
نتائج بحوث وتجارب معملية تخضع لمعايير صارمة،
وتجد طريقها إلى التطبيق المباشر في السلوك الأخلاقي أو الإنتاج العملي.
اضافةتعليق
التعليقات