قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ، وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، في هاتين الآيتين نجد عدة إشارات تربوية، منها:
الأولى: الرسالي يعمل بالأسباب ولكن في النهاية هناك مواعيد إلهية عليه أن يسلم لها ويعمل وفقها، فهو لا يعمل أكثر مما هو مطلوب منه، وهذه ما نستلهمه من هذه الآية فلما حان موعد تنفيذ الوعد الالهي بنجاة أهل الإيمان وإغراق أهل الكفر امتثل نبي الله لما قيل له، إذ لم تقل الآية أن النبي لما أنهى بناء السفينة حمل بها من آمن بل أنتظر الأمر الالهي، وذلك في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ…}.
كما إن الآية فصلت بما يجب عليه حمله معه على ظهرها، بقوله تعالى: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}، بل حتى فيما يخص أهله كان هناك تحديد وسماح لأفراد معينين، وهذا فيه قمة الامتثال والتسليم والعبودية لديه كرسالي.
الثانية: إن الآية لم تقل [احْمِلْ فِيهَا] بل قالت [احْمِلْ بِها] وفي ذلك- كما يبدو- تأديب إلهي لطيف لنفس رُسله ولنا لمفهوم التوحيد، فلو كان الحمل في الآية بـ[معك] وكأن هناك شيء في النفس يحصل بأنه هو المنجي لهم والمنقذ لهم، لكن لما نسب الحمل للسفينة ففي ذلك حفظ لحقيقة إنك رسول والسفينة وسيلة والمنجي والحافظ هو الله تعالى لا سواه، وهو درس لكل رسالي أن يكون دقيقاً في دعوته وتكليفه، أن لا ينسب شيء لنفسه، كي لا تتعلق نفوس العباد به فيكون مبعداً لها لا مقرب، وهذه إشارة مهمة جداً.
ولهذا الآية التي بعدها أشارت لهذه الحقيقة الايمانية المتعمقة في نفس هذا الرسول، فهو قال لهم [ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا] بعد أن أتى الأمر الإلهي، فهو لما كان الأمر الإلهي قد صدر له لم يأمر إلا بعد أن بدأ بإسم ربه، وبذلك إشارة منه إليهم أنه لا ينسب نجاتهم له بل لربهم الذي أرسله لهم وأشار إليه بصنعها، وإلى من بقوته وقدرته ستجري وترسي وتحملهم، وبرحمته ومغفرته التي شملتهم قد حصلت نجاتهم، فهذا التجرد من الأنا والنظرة للنفس هو الذي يرفع الإنسان ويجعله ذو شأن ووجاهة عند الله تعالى.
اضافةتعليق
التعليقات