أول الرسل الذين ذكروا في سورة هود هو النبي نوح (عليهما السلام)، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(٢٥) أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ(٢٦)}، فحكاية الارسال لهذا النبي بدأت بغاية الانذار والتنبيه ولم يُذكر فيها التبشير، ولعل في ذلك اشارة لخلو قومه الذين أرسل إليهم من أهل الإيمان -الذين يخصون عادة بخطاب التبشير- ثم إن الآية قالت (نَذِيرٌ مُّبِينٌ) اي الواضح الذي لا لبس فيه ولا خفاء ولا تعقيد، وهذا دال أيضًا لى شدة جهل وعناد قومه.
والمُّبِين هو البيان الصريح أي هو الموجب عودة المُبَيَن له إلى ما فطرت عليه نفسه من عقيدة التوحيد وعبودية الاله الواحد الاحد، والإنذار هو من دواعي خوف المنذر عليهم من استحقاق العذاب لعبادتهم غير الله تعالى، فالرسول أثر من آثار هذا المعبود، يأتي رحمة منه سبحانه لينجيهم من هذا المصير وليس ليجمعهم حوله.
كما إن لفظة(عَذَابَ) و(يَوْمٍ أَلِيمٍ) في وصف يوم القيامة -كما يقال إن الألم صفة العذاب- ففي ذلك إشارة إلى إن ذلك اليوم بحد ذاته على أمثال هؤلاء الذين لم يستجيبوا للنذر سيكون يوم أليم، فكيف إذا رافقه الجزاء وتحقق في حقهم، كيف سيكون الألم عندئذ؟! كما في قوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، ولكن مع كل هذا لم يستجب منهم إلا القليل.
فواحدة من فوائد هذه السورة وآيات قوم نوح (عليه السلام) إنها تكشف لنا المعوقات النفسية التي منعت قوم هذا النبي من الاستجابة لدعوته، فهي نافعة لكل رسالي ليعرف كيف يتعامل مع قومه ومجتمعه، ونافعة لكل إنسان يريد أن يتفحص ذاته ليعلم هل فيه هذه المعوقات التي تحجبه عن الانتفاع من تذكرة الله تعالى عبر دعاته ورسله، أم إنه سلك مسلك هذه الأقوام وحمل أوصافهم وأعمى قلبه وضيع فرصته في هذه الحياة الدنيا وخسر آخرته؟!
المعوق الأول: المقاييس المادية والظنية في التعامل مع تذكرة الرسل
قال تعالى: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ(٢٧)}، هذه أول آية تبين لنا مرحلة انقسام الناس الى فريقين تجاه تذكرة الرسول عبر الإنذار، إذ من الملفت هو أسلوب ردهم ومحاججتهم للنبي ممن وصفتهم الآية بأهل العمى الصم- التي تقدم الحديث عنها- إذ مقاييس الاستجابة من عدمها لديهم ليس ما عرفوا من نذر مبينة بل بما عبرت الاية (مَا نَرَاكَ)(وَمَا نَرَى) فهم أصحاب عيون ونظرة مادية للحقائق لا أصحاب بصائر، لذا كانوا من فريق العمى.
وكان حكمهم هو الظنون في تكذيب ما جاءهم، فالاستيقان يصاحب أهل البصائر والوعي والفهم والقلوب اليقظة والنفوس غير المعاندة، فأهل اليقين لا يقيسون الأمور بظنونهم، كما أمرهم تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، فأهل البصائر لا يُمرضون قلوبهم بالظنون، فيحجبهم سوء الظن عن التصديق بدعوى أهل الحق، بل ورؤية الحق باطلاً بتكذيبه كما جرى مع هؤلاء القوم.
فما أن يكون المقياس لتمييز الحق من الباطل هو النفس وظنونها، لن يفلح صاحبها بالوصول إلى الحقيقة، بل وقد يكون سببًا لفتنة غيره وصده عن الحق، وهذا ما قد يقع به من لم يربي نفسه على التواضع، واحترام ضعفه ومحدودية معرفته، فمن يتكبر على الأعلم منه ويرى أن علمه اعلى وإحاطته أوسع سيقع بهكذا مرض خطير ويحصد ثمرته ألا وهي سلب التوفيق للهداية.
إذ تكمن خطورة هذا العائق أن هذه النفس عندما تكون رغباتها وأهوائها قبل كل شيء، وأولى من كل شيء، سيصل الأمر بصاحبها إنه يُسَخر حتى ما في الحق لنفسه وكل ما لا تهواه نفسه من الحق ينكره ولا يأخذ به، فيخرج من دائرة الإنصاف إلى دائرة الاتصاف بالنفاق.
بالنتيجة في هذه الآية فرصة لنا لنتنبه بأن النفس إن كانت هي المقياس في ما يصل إلينا من دعوة وإنذار، فإنها ستحكم القلب وتعميه وتشغل صاحبها بالدنيا وتملئ عينه بما فيها من زينة وملاذ زائلة، فيصبح لا يرى سواها ولا يبتغي إلا إياها، وتمرضه فتصبح اليقينيات عنده ظنون ووجود حياة اخرى غير هذه الحياة اوهام.
اضافةتعليق
التعليقات