قد تجيب عن هذا السؤال: وكيف أكون موهوباً والناس من حـولي لم يعترفوا لي بالنبوغ بعد، ولم يسبق لي أن نبغت في مجال ما من مجالات الحياة؟
مهلا، إننا نود أن نميز بين الموهبة كعطية مطمورة بداخلك، وبين الموهبة كواقع خارج ذاتك، وقد خرجت من حيز نفسك إلى المجتمع من حولك. قد تكون موهوباً بمواهب فذة ونادرة، ولكن لم تتح لك الفرصة حتى هذه اللحظة لكي تخرج الكنز المخبوء بداخلك وتترجمه في واقع حياتك إلى كنز حي معترف به من الجميع .
إننا نقول لك: إن أحدا لن يمد يده إليك يظهرك على ما وهبه من مواهب، العكس هو الصحيح، إنك ستجـد مقاومة لما قد تبديه من مواهب، وتظهر تلك المقاومة في الاستخفاف بك، أو في السخرية مما تقوم بعمله أو إنتاجه، أو قوله، أو كتابته، أو عرفه.
إننا نقول لك أيضاً: كم من أصحاب مواهب انصرفوا عما بدأوا فيه خوفاً من نقـد النقاد أو درءا لاستهزاء المستهزئين؟، ولكن القليل من أصحـاب المواهب لم يعبأوا بما يقوله الناس عنهم .
ولكن هل الطريق إلى المجد والشهرة قصير؟ إنا نسارع إلى القول بأن هناك نوعين من الشهرة: نوع رخيص، وآخر ثمين، والنوع الرخيص من الشهرة يتأتى لبعض الناس بسرعة وبغير إعداد طويل، وهي شهـرة هشة تتبخر بسرعة. أما النوع الثمين من الشهـرة فإن الطريق المؤدية إليه ليست مفروشة بالورد والرياحين، بل هي مفروشة بالأشواك وهي طريق طويلة.
ونصيحتنا لك ألا تجعل الشهرة في الحياة هي هدفك الأسمى، ذلك أن الشهرة من النوع الثاني الثمين تكون ثمرة الجهود الطويلة والشاقة، فعليك بالسعي وراء مواهبك بغير أن تلقى بالا إلى إحراز الشهيرة.
إنَّ الشهرة سوف تكون من نصيبك بغير أن تسعى في أثرها، اترك الناس يحسون بك بغير أن تلاحقهم وبغير أن تلح عليهم بأن يعترفوا بك وبمواهبك، جرب وجرب بغيـر يأس أو نكوص. وإذا وجدت أنك تتقدم فيما بدأت فيه فسر دائما إلى الأمام بغير توقف. اقض الوقت الطويل في استثمار مواهبك، لا تظن أن العبقرية موهبة فطرية تفرض نفسها على صاحبها بغير أن يبذل جهد استخدامها وإبرازها إلى حيز الوجود .
صحيح أن الموهبة أو العبقرية قد تلح على ذهنك، ولكن الحاحا لا يعنى إنها تخرج إلى حيز الوجود بغير جهد أو عرق اقرأ تاريخ أي عبقري تجده يتلخص في عناصر ثلاثة: الموهبة، والوقت، والجهد.
لا تجعل مشاغل الحياة تطفىء مواهبك، فكم من طبيب كان يمكن أن يخلد اسمه في عداد عباقرة الطب، ولكن انشغاله في عيـادته وسعيه للكسب دون ملاحقة مواكب علوم الطب وفنونه قد حكم عليه بأن يقضي حياته في الظل. إذا كنت صاحب مواهب فذا، فلابد أن تتفوق إذن، والتفوق ليس معناه أن تستوعب الموجود من العلم أو التخصص أو المضمار الذي تعمل فيه فحسب، بل معناه أن تتفوق على ذلك الموجود، وأن المند بالحضارة ولو خطوة واحدة إلى الأمام، فالعبقري ليس من يعيش على غذاء عقلي أعده له غيره، بل هو ذلك الذي يشارك في إعداد وجبات عقلية جديدة بقيا.
ولكن العبقري لا يبدأ بالإبداع بل ينتهى إليه، إنه شخص سريع الامتصاص لما هو موجود بحيث يمتد بعد ذلك إلى آفاق جديدة لم يسبقه أحد إليها . على أن العبقري شخص مشارك أيضا فيما يقرأ وفيما يطلع عليه، إنه كالممثل البارع الذي لا يكتفي بقراءة الأدوار التي يقوم بتمثيلها، بل هو يتقمص الشخصيات المعروضة أمامه في تلك الأدوار، فهو لا يردد ما كتب في المسرحية، بل يعيشها بعقله ووجدانه معا، والعبقري يحيا واقعه وفكره وكأنه يؤلف مع المؤلف الذي يقرأ له، ويخترع مع المخترع الذي يشاهد اختراعه، ويجـرب مع صاحب الكشف العلمي، ويعاني مع الفنان في مرسمه ومع الشاعر في قرض شعره.
وبينما تقول إن العبقرية نادرة، فإننا لا نستطيع أن تقول نفس الشيء بآراء التبرع، فكل الناس العاديين يتسنى لهم التبرع في مجال ما من مجالات الحياة الكثيرة جدا، المهم هو أن يعرفوا للمجال الذي يمكن أن يحققوا لأنفسهم النبوغ فيه، ثم يأخذوا في استثمار مواهبهم الاستثمار الصحيح وبالطريقة الصحيحة .
إذن نبدأ فوراً بالنهوض والخروج من نطاق التبعية الفكرية إلى رحابة الابتكار، ابتكر أي شيء، هل حاولت مثلا أن تسجل الأفكار؟ هل حاولت قرض الشعر أو كتابة قصة أو رسم لوحة .
إننا نهيب بك أن تشق عباب المجهول، فربما يكون لك حظا كبيرا فيه وأنت غافل عن الممكن المعمور في حنايا شخصيتك.
وحتى بالنسبة للعبقرية التي قلنا إنها موقوفة على فئة نادرة من الناس، إن علم النفس الحديث لا يغلق باب العبقرية أمام الأشخاص العاديين . يقول لنا علم النفس الحديث إن العبقرية لا تظهر في فراغ، بل تظهر في سلوك العبقري .
والسلوك نوعان: سلوك المواقف والعلاقات الاجتماعية، وسلوك الفكر والوجدان.
بالعلاقة بين العبقري وبين المجال الذي يعمل فيه، فأنت لا تكون عبقريا إلا إذا تركت بصمتك على مجال ما من مجالات الحياة، ولقد تقول أكثر من هذا: ولكن العبقرية لا تهبط عليك فجأة، إنك لكي تبتكر لابد أن تسير أولا في ظل غيرك، وبتعبير آخر: إن امتصاص خيرات الآخرين أو التفاعل معها ضروري للعبقري، فالتقليد والاستيعاب يقارن الجديد والمتكر. فالعبقرى يمر بمرحلتين: المرحلة الأولى هي مرحلة التلمذة، والمرحلة الثانية هي مرحلة الاستاذية، ولكن يجب أن تؤكد أن هاتين المرحلتين متداخلتان، فالعبقري وإن كان يمر في مرحلة التلمذة وحدها .وهذا في الواقع جعل علماء النفس يضعـون المقاييس للاستعدادات أو المواهب، وهناك بوجه عام مقاييس نفس المواهب المتعلقة بدراسة فروع العلوم المختلفة، وهناك من جهة أخـرى مقاييس المواهب المتعلقة بممارسة الوظائف المتباينة .
فإذا أردت أن تصير طياراً، فإن علماء النفس يقيسون مواهبك في ناحيتين: الناحية الأولى: ما يتعلق بموهبتك في دراسة علوم وفنون الطيران. أما الناحية الثانية: فهى ما يتعلق بموهبتك في تطبيق تلك العلوم والفنون في الطيران. والمهم في جميع الحالات أن تبدأ باكتشاف مواهبك، فلا أحد يستطيع أن يخلق فيك مواهب ليست موجودة لديك.
اضافةتعليق
التعليقات