لم تحضر أم البنين واقعة الطف، إلاّ أنّها واست أهل البيت (عليهم السلام) وضحَّت من أجل الدفاع عن الدين الإسلامي بتقديم أولادها الأبطال الأربعة فداءً للحسين (عليه السَّلام) ولأهدافه السامية.
ثم واصلت جهادها الإعلامي بعد مقتل سيد الشهداء ووصول أهل البيت (عليهم السلام) إلى المدينة المنورة، فكانت تخرج كل يوم إلى مقبرة البقيع ومعها عبيد الله ولد ولدها العباس، فتندب أبناءها الأربعة أشجى ندبة، فيجتمع الناس إليها فيسمعون بكاءها وندبتها ويشاركوها العزاء، كما كانت تقيم مجالس العزاء في بيتها فتنوح وتبكي على الحسين (عليه السَّلام) وعلى أبنائها الشهداء الأربعة، ولم تزل حالتها هذه حتى التحقت بالرفيق الأعلى.
أم البنين هي فاطمة بنت حزام، بن خالد، بن ربيعة، بن عامر، بن كلاب، بن ربيعة، بن عامر، بن صعصعة الكلابيّة، فهي تنحدر من بيت عريق في العروبة والشجاعة، وقال عنها عقيل بن أبي طالب: ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس.
تزوَّجها سيّدنا ومولانا الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)، بإشارة من أخيه عقيل بن أبي طالب لكونه عالماً بأخبار العرب وأنسابهم، حيث كان قد طلب منه الإمام (عليه السَّلام) أن يختار له امرأةً قد ولدتها الفحولة من العرب ليتزوّجها فتلد له غلاماً فارساً، فاختارها له وقال الطبري: ثم تزوّج ـ أي علي (عليه السَّلام) بعد فاطمة (عليها السلام)، أم البنين بنت حزام، وهو أي حزام أبو المجل بن خالد، بن ربيعة، بن الوحيد، بن كعب، بن عامر، بن كلاب، فولدها لها منه: العباس وجعفر وعبد الله وعثمان، قتلوا مع الحسين (عليه السلام) بكربلاء، ولا بقية لهم غير العباس.
أم البنين والشعر
كانت اُم البنين شاعرة فصيحة، تخرج بعد مقتل الحسين (عليه السَّلام) ومقتل أولادها الأربعة كلّ يوم إلى البقيع ومعها عبيد الله ولد ولدها العباس، فتندب أولادها خصوصاً العباس أشجى ندبة، فيجتمع الناس فيسمعون بكاءها وندبتها، وكان مروان بن الحكم على شدّة عداوته لبني هاشم يجيء في مَن يجيء، فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي.
من جملة رثائها
يا مَن رأى العباسَ كَرَّ *** على جمـاهيرِ النَقد
و وراه مِن أبناءِ حيدر *** كـلّ لـيثٍ ذي لبـد
أُنبئتُ أنّ ابني اُصيبَب *** برأسـهِ مـقطوع يد
ويلي على شبلي آمالَ *** برأسه ضَـربُ العَمد
لو كان سيفُكَ في يدك *** لمـا دنـا منك أحـد
و من مراثيها أيضاً:
لا تَدعـونِّي ويـكِ اُم البنين *** تُـذكّرينـي بليـوث العَرين
كانت بنـون لـي اُدعى بهم *** واليوم أصبحتُ ولا من بنين
أربعـةُ مـثل نسـور الرُبـى *** قد واصلوا الموت بقطع الوتين
تُنـازع الخرصـان أشـلاءَهم *** فكلُّهـم أمـسى صريعاً طعين
يـا ليت شعـري أ كما أخبروا *** بـأن عبّـاساً قطيـع اليميـن
وفاتها
تُوفيت هذه السيدة الجليلة في الثالث عشر مِن جمادى الآخرة سنة: 64 هـجرية في المدينة المنورة ودُفنت بالجانب الغربي من جنة البقيع حيث يتوافد الزائرون لزيارة مرقدها الطاهر.
ولائها للإمام الحسين (عليه السَّلام)
كانت أم البنين تحب الحسين (عليه السَّلام) وتتولاه إلى حدّ كبير يفوق المألوف، ومما يدلّ على ذلك موقفها البطولي لدى وصول خبر إستشهاد الإمام الحسين (عليه السَّلام) إلى المدينة، الموقف الذي لا ينمحي من ذاكرة التاريخ أبداً، هذا الموقف الذي رفع من شأنها ومنحها منزلة رفيعة في قلوب المؤمنين.
يقول المامقاني في تنقيح المقال: ويستفاد قوّة إيمانها وتشيّعها من أنّ بشراً بعد وروده المدينة نعى إليها أحد أولادها الأربعة.
فقالت ما معناه: أخبرني عن أبي عبد الله الحسين (عليه السَّلام)، فلمّا نعى إليها الأربعة.
قالت: قطّعت نياط قلبي، أولادي ومَن تحت الخضراء كلّهم فداء لأبي عبد الله الحسين (عليه السَّلام)، فإنّ عُلْقَتِها بالحسين ليس إلاّ لإمامته (عليه السَّلام)، وتهوينها على نفسها موت مثل هؤلاء الأشبال الأربعة إن سَلِمَ الحسين (عليه السَّلام) يكشف عن مرتبة في الديانة رفيعة، وإنّي اعتبرها لذلك من الحسان إن لم نعتبرها من الثقات.
ما قيل في حقها
قال أبو النصر البخاري في كتابه سر السلسلة العلوية: "لم يعقب أمير المؤمنين من فهرية بعد فاطمة عليها السلام إلا منها، ولم تخرج أم البنين إلى أحد قبله ولا بعده".
وقال الشيخ المامقاني في كتابه تنقيح المقال: «ويستفاد من قوة إيمانها أنّ بشرا كلما نعى إليها أحد أولادها الأربعة قالت ما معناه أخبرني عن الحسين فأخذ ينعي لها أولادها واحدا واحدا حتى نعى إليها العباس عليه السلام قالت: يا هذا قطعت نياط قلبي، أولادي ومن تحت الخضراء كلهم فداء لأبي عبد الله الحسين عليه السلام، فها هي كما ترى قد هان عليها قتل بنيها الأربعة إن سلم الحسين عليه السلام ويكشف هذا عن أن لها مرتبة في الديانة رفيعة».
وقال الشهيد الأول: "كانت أمّ البنين من النساء الفاضلات، العارفات بحقّ أهل البيت عليهم السلام، مخلصة في ولائهم، ممحضة في مودّتهم، ولها عندهم الجاه الوجيه، والمحلّ الرفيع، وقد زارتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة تعزّيها بأولادها الأربعة ، كما كانت تعزّيها أيام العيد...".
ووصفها عمر كحالة في كتابه أعلام النساء بقوله: «شاعرة فصيحة».
كان أولادها الأبطال أبناء أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد استشهدوا جميعاً في نصرة أخيهم الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء يوم عاشوراء.
أكبرهم وأفضلهم: (العباس) (عليه السلام) ويكنّى بـ (أبي الفضل) وهو آخر من قتل من الأربعة، حيث قدَّمهم بين يديه فقتلوا جميعاً.
وقد كان للعباس (عليه السلام) عقب ولم يكن لأخوته الثلاثة، وكان رجلاً جميلاً حتى لقّب بـ (قمر بني هاشم).. وكان شجاعاً جسيماً بحيث يركب الفرس المطهّم ورجلاه تخطان الأرض خطاً، وكان لواء الإمام الحسين (عليه السلام) معه يوم استُشهد، ولقِّب بـ (السقّاء) لأنه استسقى الماء من الأعداء لأخيه الحسين (عليه السلام) وعائلته ولكن قُتل قبل أن يوصل الماء إليهم، وكان قد جاء بالماء من نهر علقمة، وقد رأيت أنا هذا النهر قبل نصف قرن في طريق بغداد مبتعداً عن كربلاء بمقدار نصف فرسخ، كذا قالوا بأنه نفس ذلك النهر.
وقد ذكر أصحاب المقاتل شيئا عن بطولة أولاد أم البنين ومواساتهم للإمام الحسين (عليه السلام) وكيفية استشهادهم، فقالوا:
إنه لما رأى العباس (عليه السلام) كثرة القتلى في أهله وفي أصحاب الحسين(عليه السلام) ـ بالنسبة إلى عددهم القليل قال لأخوته الثلاثة من أبيه وأمه،عبد الله وجعفر وعثمان:
«يا بني أمي تقدموا للقتال، بنفسي أنتم، فحاموا عن سيدكم حتى تستشهدوا دونه، وقد نصحتم لله ولرسوله».
فقاتل عبد الله وعمره خمس وعشرون سنة فقتل بعد قتال شديد.
ثم تقدم جعفر بن علي (عليه السلام) وعمره تسع عشرة سنة وقاتل قتال الأبطال حتى قتل.
ثم تقدم عثمان بن علي (عليه السلام) وعمره إحدى وعشرون سنة وقاتل قتالاً شديداً حتى قتل.
وكان الإمام الحسين (عليه السلام) يحملهم من أرض المعركة إلى الخيمة كما جرت العادة في ذلك اليوم، ولكنه (عليه السلام) لم ينقل العباس (عليه السلام) وتركه في مصرعه حيث ضريحه الآن، وذلك لأسباب مذكورة في مظانها.
وكان كل واحد من أولاد أم البنين يرتجز عند القتال بما هو مذكور في كتب المقاتل.
ولما وصل خبر استشهادهم إلى أمهم أم البنين في المدينة المنورة بكتهم بكاءً مرّاً، لكن كان بكاؤها لهم أقل من بكائها على الحسين(عليه السلام) وذلك في قصة مشهورة.
وهذا الموقف المشرف من السيدة أم البنين (عليها السلام) يدلّ على علوّ معرفتها بالإمام (عليه السلام)..
اضافةتعليق
التعليقات