أضواء علی قوله علیه السلام: «إِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا قَدْ تَغَيَّرَتْ وَ تَنَكَّرَتْ وَ أَدْبَرَ مَعْرُوفُهَا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ».
نظرة الإنسان إلی الأمور هي التي تحدد مسیر حیاه الإنسان وتؤطر سلوکه وتمنهج حیاته.
أحدهما ینظر إلی الوردة، فیصف جمالها وروعتها ورائحتها؛ والآخر ینظر إلی الورده نفسها فیشكو أشواكها.
اثنان قد یبتلیان بمشكلة واحدة؛ أحدهما یجزع ویفزع ویشتكي وقد ینطق ویتفوه بما یخرجه عن دائرة الإیمان؛ وتری الآخر صابرا محتسبا راضیا بقضاء الله وقدره؛ یری المصیبة ترویضا للنفس ویتخذها سلما للتقرب إلی الله أکثر فأکثر.
الفارق في نظرتهما للأمور وفي البناء الفكري لهما.
لتقریب الفكرة یمكن أن نشبه البناء الفكري في الإنسان بأساس البیت. هناك بیوت ذات أساس ضعیف تنهار بأدنی حادث؛ وهناك ناطحات السحاب التي تقاوم الزلازل والعواصف والحوادث الجویة.
في تركیا وإیران حدثت زلازل أحالت مدناً وأحیاء بأكملها إلی ركام؛ وفي الیابان تحدث زلازل عدیدة، حیث أنها تقع علی الحزام الناري؛ من دون أن تكون هناك إصابات. والسبب ابتكار تقنیة لتحمي بلده من الآثار المدمرة للهزات الأرضیة.
البناء الفكري في الإنسان كهذا الأساس، فلو کان صلبا رصینا سیكون الفرد صلب الإیمان صامدا محتسبا حتی و لو لو صبت علیه المصائب وغاص فی المشكلات. لذلك ورد في وصف المؤمن «في الزلازل وقور؛ وفي المكاره صبور وفي الرخاء شكور».
یقول أحدهم ابتلیت بمشكلة، فأخذت ورقة وقلم، وبدأت أسجل النعم المحیطة بهذه المشكلة؛ وإذا بي أجد أکثر من 25 نعمة تحیط بهذه المشكلة. وهناك شخص آخر تجده یتكلم عن المشاکل حتی وإن كان غارقا فی النعم!
في القضایا الاجتماعیة أحدهما یبني أمره علی التغافل وسعة الصدر والعفو؛ والآخر یبني أمره علی الانتقام والقصاص والغیبة والنمیمة.
في مجال التربیة تری أمّاً تصرف کثیراً من وقتها لتعلیم أولادها وتثقیفهم بثقافة أهل البیت (علیهم السلام) وتعمل وفقاً لما قاله زین العابدین (علیه السلام): «وَ أَعِنِّي عَلَى تَرْبِيَتِهِمْ وَ تَأْدِيبِهِمْ، وَ بِرِّهِمْ»[1] وأخری تهمل أولادها اهمالا کاملا؛ فتترکهم وشأنهم. من الطبیعي أن النتاج لیس نتاجاً واحدا؛ والسبب فی ذلك البناء الفكري لكل أم في مجال التربیة.
لذلك علی کل انسان أن یخلو بذاته، لیكتشف ویعرف بنائه الفكری، ثم علیه التوغل والتمعن والتدبر والخوض في أحادیث أهل البیت (علیهم السلام)، ویعرض مبادئه علی ما وصلنا منهم؛ حتی یكون سالكاً دربهم ومنتهجا منهجهم.
النظرة إلی الدنیا
عند التدبر في الأحادیث الواردة عن أهل البیت (علیهم السلام) تری أن جمله منها تحاول تصحیح قیم الانسان ومبادئه وبنائه الفكری؛ منها تصحیح رؤیة الإنسان إلی الدنیا. فلو أن رؤیة الإنسان إلی الدنیا کانت رؤیة سلیمة، فإنه سیكون فی مأمن من الکثیر من المعاصي والأخطاء.
عند التأمل في الخطابات والكتابات التي صدرت عن الإمام الحسین (علیه السلام) حین خرج من المدینة وتوجه نحو الكوفة، نری أن إحدی محاور حدیثه بیان لحقیقه هذه الدنیا الخلابة؛ فكتابه إلی أخیه محمد بن الحنفیة تشتمل علی عبارتین فقط:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ع إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَ مَنْ قِبَلَهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَمَّا بَعْدُ فَكَأَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ وَ كَأنَّ الْآخِرَةَ لَمْ تَزَلْ وَ السَّلَامُ.»[2]
مر رجل بقریة وإذا به یری منظراً غریباً؛ رأی حفراً أمام دورهم؛ فأثار ذلك استغرابه وسألهم عن ذلك. فأجابوا:
هذه قبورنا؛ حفرناها أمام بیوتنا حتی نتذکر قصر الحیاة؛ وهذا التفكیر یمنعنا عن الظلم والسرقة؛ ولذلك قریتنا بعیدة عن کل أنواع الشرور؛ لا نحرص علی جمع الأموال؛ ولا نأکل أموالنا بیننا بالباطل.
لو أن اللذین عاصروا أبا الأحرار في سنة 61 من الهجرة، بنوا أمرهم علی قصر الدنیا، وفنائها، ألم یكن ذلك کافیا لنصرتهم ابن بنت رسول الله وترکهم محاربته؟
کانت الدنیا منتهی بصرهم، لای بصرون ورائها شیئا؛ ولذلك عندما نهی الإمام الحسین (علیه السلام) ابن سعد عن محاربته، أجاب «أخاف أن یهدم داري»! مدی تفكیره ومنتهی بصره هو هذه الدار وهذه الدنیا!
وأیضا من کلام له (علیه السلام) في مسیره إلی کربلاء:
«إِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا قَدْ تَغَيَّرَتْ وَ تَنَكَّرَتْ وَ أَدْبَرَ مَعْرُوفُهَا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ وَ خَسِيسُ عَيْشٍ كَالْمَرْعَى الْوَبِيلِ».
الصبابه تعني البقیة القلیلة المتبقیة في الإناء.
هناك بعض الحشرات تسمی ذباب مایو تولد وتعیش وتلد و تموت في 24 ساعة؛ حیاتها مقارنة بحیاة النإسان قصیرة جدا؛ وهناك نوع من نجوم البحر لها عمر طویل جدا؛ حیث لها القابلیة في تجدید خلایا جسدها؛ ولذلك تعیش ملایین السنین. حیاة الانسان مقارنة بهذه الكائنات هي لا شيئ.
الإمام لا یتحدث عن حیاتي وحیاتك وعمري وعمرك ویقول أنها قصیرة؛ وإنما یتحدث عن عمر الدنیا بأکملها. هذا الكون الشاسع الذي مرَّ علی خلق کوکب واحد، وهي الشمس، ملیارات السنین؛ لا نعلم متی ولدت ومتی تنتهي. کل هذا الذي یبدو في أعیننا عمرا طویلا، یبدو في نظر الإمام عمراً قصیراً- قصیراً بحیث کأنه لم یكن.
وقصیرا بحیث لم یبق منها صبابة إلا کصبابة الإناء.
هذا العمر القصیر بماذا نقضیه؟
شهر محرم الحرام هي أیام الرجوع إلی الله؛ حزننا علی الحسین، بكائنا علیه، خدمته، الحضور في المجالس، اقامه المجالس کل هذه طرق للتقرب إلی الله وللتمسك بعروة أبي عبد الله (علیه السلام).
الإمام الحسین (علیه السلام) رحمة الله الواسعة؛ أقل شيء في سبیل الحسین، هو عظیم عند الله.
کل شيء یرتبط بسید الشهداء یكتسب من نور الإمام (علیه السلام).
قد نحزن علی أشیاء کثیرة؛ على مصائب تنزل علینا، علی صفقه نخسرها، علی مرض نتألم منه، علی فقد الأحباب؛ لكن هذه الأحزان لا تقاس بحزننا علی آل البیت؛ حیث إنها عبادة. فعن عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ علیه السلام قَالَ: «نَفَسُ الْمَهْمُومِ لِظُلْمِنَا تَسْبِيحٌ وَ هَمُّهُ لَنَا عِبَادَةٌ»[3].
قد نبكي علی أشیاء کثیرة؛ لكن الدمعة علی الحسین (علیه السلام) لها قیمة کبیرة عند الله.
وفي الأمالي مسندا إلى الرضا (عليه السّلام) قال: «من تذكّر مصابنا، فبكى لما ارتكب منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكر بمصابنا، فبكى و أبكى لم تبك عينه يوم القيامة».
إذا أراد أهل السماء التقرب إلی الله فإنهم یتقربون إلیه بتوالي وتواتر البكاء علی المصائب التي حلت بأهل البیت (علیهم السلام). أي أنهم لا یقتصرون علی البكاء مرة وأخری، بل بكائهم علی مصائب أهل البیت متواترا؛ کما نقرأ في الزیارة الجامعة:
«بَلْ يَتَقَرَّبُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِحُبِّكُمْ وَ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ أَعْدَائِكُمْ، وَ تَوَاتُرِ الْبُكَاءِ عَلَى مُصَابِكُمْ، وَ الِاسْتِغْفَارِ لِشِيعَتِكُمْ وَ مُحِبِّيكُمْ».
فلنتزود من مائدة الحسین (علیه السلام) ولنزداد حزناً وأسی وبكاء وتعظیماً للشعائر في هذه الأیام؛ لنلحق برکب أبي عبد الله.
اضافةتعليق
التعليقات