قد تزج بنا الحياة في مواقع ضعيفة ومواقف لا يُحسد عليها، فنلوذ بالفرار منها بطرق شتى، وقد يكون أولها الكذب الذي يجده اغلب الناس ملاذا للهروب من أخطائهم، أو للتستر على بعض أمورهم الحياتية، أو حتى للإيقاع بضالتهم المنشودة، وقد أشيعت هذه اللغة بين الناس وأطالت البعض لعنة هذه الصفة، حتى جرفهم التيار خلف الانجرار وراء ما يقولوه ويصدقه المقابل ومنهم من فقد ثقة الناس به ومنهم من خسرهم إلى الأبد.
فهل الكذب من الصفات الوراثية أم أسلوب مكتسب أم هو احد الأمراض النفسية؟
الكذب المرضي
أصبح الكل يواري نفسه عنها ويتجنبها، حتى باتت معروفة لجميع الناس من أقرباء وأغراب حتى في محلتها التي تقطن بها.
(ع) تبلغ من العمر 68 سنة تحدثت أختها قائلة: "لا ادري ما الذي غيرها، ما كانت تحمل هذه الصفة المقيتة، كلما جالستها أجدها تسرد لي أحاديث لا تمت للواقع بصلة، كنت أنصت لحديثها دون تعليق ولا تعقيب كنت استمع لكلامها وانا اعرف ان اكثره كذب ومن نسج الخيال، إلا إني لم أعاتبها يوما واكتفي بالصمت".
وتابعت: "قد كان هذا اكبر خطأ قمت به، فقد استشرت هذه الصفة داخلها حتى أصبح الكذب لغتها الدارجة في كل مكان وزمان، حتى اقتادها الى تلفيق أقاويل على بعض المقربين مما سبب مشاكل وخيمة فيما بينهم، واهتزت العلاقات الأسرية بسبب أكاذيبها حتى تسببت بإفشال خطبة ابنها، وراح الكثير ضحية أقاويلها المزعومة بالكذب، وخسرت احترام كل الناس لها، وبات الكل يمقتها، ويبتعد عنها وانا ايضا ابتعدت عنها".
ختمت حديثها :"لم اهتدي إلى السبب الذي جعلها تتصف بهذه الصفة، فقد اعتادت الأمر لدرجة إنها لا تستطيع أن تتحدث دون ان تكذب".
الكذب المرضي، اضطراب لا يمكن التخلص منه..
هذا ما استهل به صباح كريم/ بكالوريوس علم نفس حديثة حيث قال: "إن للكذب أنواع مختلفة منها يكون الإنسان مضطر فيها، ومنه من يستخدمه في عمله اذا كان صاحب تجارة، ومنه من يبالغ في تعظيم الأمور خلال سردها".
وأضاف: "أحياناً يعرف الشخص أنه يعاني من هذه المشكلة ولكنه لا يستطيع التخلص منها، حيث يشعر بأنه محل سخرية زملائه ويعرف بأن ما يقوله كلام غير مقبول وخيالي، ولا يقوله أي شخص سوي وأنه كذب واضح، الا انه لا يستطيع فعل شيء للتخلص من هذا الداء، والغريب ان أكثر الأشخاص الذين يعانون من هذا الكذب المرضي يعيشون حياتهم العادية ويكذبون على الآخرين، ولكن سرعان ما تنكشف أكاذيبهم، لأنهم يعانون من اضطراب الكذب المرضي، وغالباً كذباتهم تكون كبيرة وغير قابلة للتصديق فإن الآخرين يسخرون منهم وعلى أحاديثهم التي تصبح طرائف بين الآخرين الذين يعرفون هذه الأكاذيب ويتناقلونها فيما بينهم كنوادر وطرائف تجعل الشخص الذي يكذب موضع للمرح والتسلية".
ويروي سمير حسين حكايته مع احد الزبائن الذين يتوافدون إلى (المقهى) الذي يرتاده كل مساء، حيث كان يقصده ذلك الرجل الذي يناهز الأربعين فتجد كل الموجودين يتهامسون، ها قد وصل لنسمع ما سيسرده لنا اليوم، وكم استغرق من الوقت ليجمع أحداث قصته الجديدة التي نسجها من بنات أفكاره، يا ترى كم استغرق من الوقت ليقوم بتأليفها، وتتعالى ضحكاتهم الصاخبة وهم يستمعون له بشغف.
الكذب الانتقامي
فيما قالت منى وهو اسم مستعار/ طالبة: "كانت لي صديقة أعدها بمثابة اخت لي، كنت اطلعها على ادق اسراري، حتى اختلفنا في وجهات النظر واحسست اني لا استطيع ان اسايرها على افعالها الرعناء، فقررت الابتعاد عنها، فوجدتها تطلق الشائعات عليّ، ومنها بعض تفاصيل من حياتي الخاصة التي اودعتها سرا فيما بيننا، الا انها غيرت في حقيقة الامر باسلوب كاذب، الكثير صدقها وقد بررت فعلتها تلك بعدما عاتبتها من منطلق (اتغده بيج قبل متتعشين بيه)، كانت تظن اني املك نفس صفاتها، الغدر والكذب، فقررت ان تنتقم مني لعدم رغبتي بأن نعود صديقتين، الصدمة التي تلقيتها علمتني ان لا اثق بمن حولي بسرعة وان لا اصدق ما يقولوه لي على الغير فربما كانوا يكذبون، بغية الفتنة او الكره او الغيرة او الانتقام".
رؤية نفسية
الاستشارية النفسية في مركز الإرشاد الأسري آيات محمود الفتلاوي قالت: "أن أكثر من يعانون من هذا الاضطراب يعيشون حياتهم دون أن يطلبوا مساعدة من أي جهة نفسية أو اجتماعية، ويتعايشون مع واقعهم، ويألفهم الناس بهذه الصفة، وإن كانت تسبب إحراجاً لأقارب من يعاني من هذا الاضطراب، مثل الإخوة والوالدين وكذلك الأبناء، كثيرا ما يشعر أقارب الشخص الذي لديه مشكلة الكذب المرضي حالة من الضيق والحرج، عندما يرون والدهم أو شقيقهم يكذب في المجلس والآخرين يضحكون على كذبه ويسخرون من أحاديثه الخيالية، فإنهم يتكدرون ويشعرون بالضيق، وليس لديهم أي مساعدة يمكن تقديمها لهذا الشقيق أو الوالد".
وتضيف الفتلاوي قائلة: "ويأتي الكذب هنا على عدة مراحل: الكذب المكتسب من البيئة، والكذب الخيالي، وذلك يكون لدى الأطفال من عمر ثلاث سنوات إلى أربع سنوات إلى ان تبلغ الذروة خمسة سنوات الى هنا ينتهي الكذب الخيالي، وهذا أمر لا يثير الريبة، وهذا نتيجة نمو مخيلة الطفل، لأنه يريد التحدث والمشاركة عند بعض الأطفال، فيبدأ بتأليف القصص لكن هذا ينتهي في فترة معينة، وهناك الكذب المرضي، وهذه مشكلة لا يمكن التغلب عليها بسهولة، وقليل ما يكون علاجها بالصدمة، فلربما يمر المريض بحدث يصدمه بالواقع حين مواجهته بكذبه فيصدم فيحاول جاهدا للابتعاد عن الكذب، وأيضا هناك الكذب الانتقامي الذي يولد من الغيرة والعدوانية حيث يكون مخربا على المجتمع وهذا يتعلق بالحالة النفسية".
وأكدت الفتلاوي: "انه ليس هناك دراسة تثبت الوراثة بالكذب، انما هو أسلوب مكتسب من البيئة التي يعيشها الإنسان، فالإنسان يمتلك استعداد نفسي لاكتساب هذه الصفة، وهناك من تستحوذ عليهم هذه الصفه الذميمة حتى يتحول إلى اضطراب نفسي لا يفارقه، مما يجعله يكذب بأي شيء دون شعور، ومن الواجب نصح الشخص المصاب بهوس الكذب المرضي من معاينة طبيب نفسي أو أخصائي نفسي، وقد يكون التغير ضئيلاً جداً لان ليس هناك أدوية يمكن أن تساعد على العلاج، لكن لربما يستفيد المريض من بعض الجلسات بالعلاج النفسي المعروف بالعلاج المعرفي السلوكي أو حتى العلاج النفسي بالدعم والإرشاد".
اضافةتعليق
التعليقات